عطفا على المقال السابق الذي تناول موضوع الجِنّي الذي تخلّى عن شعره لشاعر آخر، فإن موضوع هذا المقال يتناول المُؤلفَ الذي أبدع في كتابة موضوعاته في صورة كتابٍ ثم تخلّى عنه ناسباً إياه لمُؤلِّف آخر.
فهل يمكن لكاتبٍ أن يتخلّى عن أفكاره التي وُلِدت بشق الأنفس؟ ربما حدث ذلك لأسباب عدة وقعت لدى المُؤلف نفسه، ولاعتبارات يقتضيها الحال!
وأنا أقرأ مقدمة كتاب (المحاسن والأضداد) المنسوب إلى الجاحظ، وقفتُ على كلام حول ذلك لمحقق الكتاب؛ إذ يُشير في مقدمته إلى أنّ الكتاب ليس للجاحظ أصلاً.
يقول عن ذلك: «لم يرد ذكرٌ لهذا المؤلَّفِ في كتب الجاحظ، لقد ذكر أبو عثمان أسماء نحو ستة وثلاثين من مؤلفاته في مقدمة «كتاب الحيوان» وليس بينها إشارة إليه قريبة أو بعيدة.
كما ذكر في بعض رسائله أسماء عدد من كتبه الكثيرة وأغفل هذا الكتاب إغفالاً تاماً. وكذلك خَلَتْ المصادر القديمة من ذكره، عدا كتاب الخزانة للبغدادي. أما المصادر الحديثة فقد ذكرته، منها كتاب أدب الجاحظ للسندوبي وكتاب تاريخ الأدب العربي لبروكلمان. وترجم أو. ريشر بعض فصوله إلى الألمانية ونشرها... وجميع هذه الطبعات نسبت الكتاب للجاحظ ولم تبد شكها فيه.
ولكن المستشرق الفرنسي شارل بيلا لاحظ في القائمة التي وضعها لكتب الجاحظ أن الكتاب منحول ولم يذكر الأسباب التي استند إليها». (المحاسن والأضداد، ص5)
ويُعلل المحقق عدم نسبة الكتاب إلى الجاحظ لأمور عدة، أولها: نزوع الكتاب إلى ظاهرة الجدل، والتي هي أسلوب شائع عند الجاحظ، ولكنه يُفرّق بين جدل الجاحظ وجدل مؤلف هذا الكتاب؛ إذ «أنّ جدل المحاسن والأضداد يقتصر على تعداد محاسن الأمر ومساوئه دون إبداء الرأي ودون المناقشة، أما جدل الجاحظ فيتعدى هذه المهمة، أي تعداد المحاسن والمساوئ، إلى إصدار الأحكام والبحث عن الحقيقية، والبت في الأمور المتنازع في شأنها». (ص7)
ثانيها: وجود عصبية علوية في الكتاب لا توجد عند الجاحظ.
وثالثها: هناك اختلاف واضح في أسلوب الكتاب عن أسلوب الجاحظ، يقول: «فنحن لا نقع فيه على عبارة الجاحظ المتنوعة القصيرة، التي تمتاز بالرشاقة والطبيعة والترادف المعنوي واللفظي، مع المحافظة على القوة والجمال: إن عبارة الكتاب تعوزها الجزالة وتشوبها الركاكة وتقترب من العامية والسوقية أحياناً. ولكنه كالجاحظ يتنكب جادة الحشمة والعفة في كلامه على النساء والجماع». (ص9)
ورابعها: ورود اسم عبدالله بن المعتز في الكتاب عدة مرات، «ونحن نعلم أن عبدالله بن المعتز عاش بعد الجاحظ وقُتل سنة 908م...». (ص9)
مع كل ذلك يحق لنا أن نسأل مَنْ هذا المُؤلِّف الذي وصل إلى تجربة الجاحظ الكتابية، وعمل على صناعة مؤلَّف أدبي يقارب فيه أسلوب الجاحظ، ثم يضعه في قائمة الجاحظ التأليفية؟
ولأي سببٍ كان، مادي أو غيره، فإننا أمام كاتب مبدع، مثقف، مُلِمّ بالشواهد والفصول ليعمل على تبويبها تبويباً جيداً، وهو في ذلك أشبه بالجِنّيِّ الذي طرّز قصائده، وصنعها وأبدعها ثم تركها لشاعر يتغنّى بها أمام الملأ.
ويبدو أن للجاحظ المكانة الكبيرة في نسبة الكتب، ففي كتاب (ديوان الغلمان: أنطولوجيا الغزل المذكر في العصر العباسي) الصادر عن دار الانتشار العربي عام 2014م، أضيف في واجهة الكتاب عبارة (مخطوط يُنسبُ إلى الجاحظ!)، هكذا كُتبت بإضافة علامة التعجب آخر العبارة، علامة التعجب تلك تُقدّم أسئلة عميقة ومتكررة حول رسمها في جملة كهذه، فقد تكرّرت العبارة ثلاث مرات: واحدة في الغلاف الرئيس واثنتان في الغلافين الداخليين.
ومما لا شك فيه أن الاشتغال على صناعة هذا الكتاب هو اشتغال حديث، لا سيما وأن كثيراً من الشعراء الواردة أسماؤهم في الكتاب جاؤوا بعد الجاحظ، وأن اسم الجاحظ هو إشارة إعلامية فقط إلى رسالة الجاحظ الذي كتبها قبل ذلك في الموضوع ذاته وهي (مفاخرة الجواري والغلمان)، وكأن الكاتب المتأخر يحتمي بالجاحظ احتماءً كاملاً، متخفياً وراء أسلوبه المرح في اصطياد الحكاية وعرضها. أو هو محاولة من الكاتب نفسه أو الناشر في إضافة قوة إعلامية تبرر نشر الكتاب وفق الموضوع المشار إليه.
ومع ذلك فإن اختفاء اسم المؤلف من واجهة الكتاب، وحضور اسم المحقق يحيل أيضاً على أسئلة عدة في الموضوع ذاته: فما سبب غياب اسم المؤلف؟ وحضور اسم بديل «الجاحظ» أكثر شهرة وجرأة في عالم الكتابة؟ وهل يمكن أن يكون هذا التخفي نوعاً من أساليب الأسماء المستعارة التي غزت عالم الكتابة في العصر الحديث؟
ويمكن أن نلقي نظرة على كتاب آخر مهم لم يُعرف مؤلّفه، وهو كتاب (ألف ليلة وليلة) الذي يُعدُّ واحداً من كتب التراث المهمة التي نُسجت حروفها بطريقة محكمة؛ إذ تتوالد القصص تلو بعضها في سرد جذاب، وشخصيات متغيرة بتغيّر المكان والزمان. لقد قام الكتاب على عجائبية السرد، وتراص الحكايات وتوالدها، ووجود رواة مختلفين في كل حكاية، مع وجود حكّاء رئيس/ شهرزاد التي تقود الحكي من قصة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر، باحثة عن كرامة المرأة وقوتها مقابل الآخر/ الذكر/ شهريار.
تقودنا الحكاية الأولى لشهريار وزوجته التي خانته إلى حكايات متنوعة بطلها الأوحد السارد الفنان شهرزاد التي استطاعت بسردها الفني أن تأسر شهريار، الأمر الذي سمح للحكاية أن تتمدّد وللسرد أن يطول. إن نصوص الكتاب هي كنز دفين من المعلومات والحكايات والثقافة العامة والشخصيات المتنوعة والأمكنة المتخيلة والأشعار والحكم والفوائد.
إنها طريقة جذابة في السرد نحتها مؤلفها بطريقة بديعة. ولكن مع ذلك يحق لنا أن نسأل: من مؤلف كتاب (ألف ليلة وليلة)؟
جاء في مقدمة الكتاب أسطر بسيطة لم تُشر إلى واضع الكتاب، هي أسطر قدّم المؤلف من خلالها مدخلاً بسيطاً عن رؤيته في سرد الحكايات المتسمة بالعبر والاتعاظ، تقول مقدمة الكتاب: «الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين. وبعد، فإن سير الأولين صارت عبرة للآخرين لكي يرى الإنسان العبر التي حصلت لغيره فيعتبر ويطالع حديث الأمم السالفة وما جرى لهم فينزجر. فسبحان من جعل حديث الأولين عبرة لقوم آخرين. فمن تلك العبر الحكايات التي تسمى ألف ليلة وليلة، وما فيها من الغرائب والأمثال». (1/9)
أما محقق الكتاب فقدّم إشارة عن ذلك قائلاً: «لقد سحر هذا الكتاب النفيس المسمى بـ(ألف ليلة وليلة) عقول القراء وتحيّرت فيه الألباب، ألباب الباحثين من العلماء والأدباء الأوروبيين والعرب على حد سواء.
إنه في نظرنا كتاب قيّم فريد وليس له من شبيه في أدبنا العربي قديمه وحديثه، فمؤلفه الحقيقي الذي ما زلنا حتى عصرنا هذا نجهل اسمه كما نجهل العصر الذي فيه يعيش، هو مؤلف علّامة حافظ للقرآن الكريم متفقه في الدين الإسلامي الحنيف ومصلح اجتماعي كبير وحافظ للأشعار التي كان يختار منها أجودها جاعلاً منها مادة خصبة مختاراً من بينها ما كان معناه موافقاً وملائماً للموضوع الذي يضمن حكاية من حكايات كتابه أو قصة أو أقصوصة أو نادرة من النوادر التي يغلب عليها في الظاهر سمة الهزل والإضحاك قاصداً بذلك التهذيب والإصلاح؛ تهذيب النفوس الشريرة وجعلها نفوساً خيرة، معطاءة وإصلاح المجتمعات بطرح العادات القديمة المتبعة واستبدالها بعادات جديدة مفيدة للمرء ولمجتمعه». (1/1)
إذن لماذا يتخلى كاتب بهذه القيمة عن مؤلَّفه، ولِمَ يُخفي اسمه أصلاً من على كتاب قيّم كهذا؟! أسئلة ربما تفتح لنا مجالاً للتفكر في ذلك، فلعل الموضوعات التي طرقها في كتابه كانت ستدخله في معارضات مجتمعية وظن أن الكتاب لن يجد القبول في مجتمعه لحداثة موضوعه فآثر الابتعاد عن الظهور المباشر، وربما لأن الكاتب كان يمتلك مهارات السرد لكنه لا يمتلك حب الظهور، وربما لأن اسم المؤلف أُخفي عمداً من على الكتاب الرئيس لسبب ما، كلها أجوبة ترتبط بالذهن عند مطالعة هذا السِّفْر القيم.
على ذلك يمكن قياس الأشعار التي سارت بها الركبان دون أن تنسب لقائلها أو نُسِبت لغير قائلها، أو الكتب التي نُحلت ونُسبت إلى مؤلِّفين آخرين، ثم بمرور الزمن عاد اسم مؤلفها الحقيقي إليها.
على ذلك أيضا يمكن أن يقاس تخلي الإنسان عن كتبه التي اقتناها طوال حياته وملأ بها مكتبته، ولكن لظرف ما قرر التخلي عنها ببيعها، وقد رأيتُ كتباً قديمة عليها اسم مالكها الأول ثم انتقلت ملكيتها إلى شخص آخر لسبب أو لغيره.
إلا أن اجتهاد الإنسان في كتاب قد وَضَعَ أفكاره وصفَّ حروفه ثم تخلّى عنه لغيره فهي المصيبة الكبرى، فهو إن يتخلّى يتخلّى عن ثمرة فكره وفؤاده وعن ابن من أبنائه.