«رايح البلاد» و«مدنٌ للناس»!

13 يوليو 2025
13 يوليو 2025

كل خميس يمضي سؤالٌ تقليدي بين العُمانيين الذين تعود أصولهم إلى القرى البعيدة: «رايح البلاد؟»، والبلاد هنا إشارة شديدة الدقة لعالم مُكثف من الحنين إلى شيء غامض ومُربك، لم تتمكن المدينة بعد من تذويبه تحت حركة ملعقتها الكبيرة في فنجان الوقت!

فهنالك الكثير لتراه في القرية، وجوه الناس من مسافة قريبة، حرارة انطباعاتهم الكاشفة عن مشاعرهم، لهفتهم المُتطلعة، «فالإنسان هو قمة سعادة الإنسان»، كما يقول شاعر آيسلندي منذ ألف عام، حيث لا يوجد ما هو أكثر أهمية وإثارة من الاهتمام بالآخرين!

في فضاء القرية يتحركُ الأبناء أبعد من المربع المُحدد لهم في مسقط، يختبرون الحياة بغنائمها وشقائها في مزارع شاسعة، فلا تستحوذ عليهم الأجهزة في قبضتها الكابوسية، وفي حوض المزرعة لا يشتكون من حرارة القيظ، يشتبكون بحياة الناس ويتعرفون على الجيران ويمضون بدراجاتهم الهوائية غير مُكترثين بالوقت، غير مُرددين لكلمة العصر المؤذية: «ملل!»، مُحاطين بحماية الأجداد والعمومة والأخوال.. لكن كيف للقرية أن تكون فضاء شاسعا بينما المدينة فضاء ضيق؟

طالعتُ مؤخرا كتابا لافتا يتناولُ أهمية تخطيط وبناء المدن على المقاييس الإنسانية بعنوان: «مدنٌ للناس» للبرفيسور والخبير العالمي يان جيل، ترجمته بلدية مسقط للعربية. يطرحُ الكتاب سؤالا مُهما: إلى أي حد تستطيع مدن اليوم أن تواكب تطلعات الناس لا سيما وأنّها أهملت البعد الإنساني وانصب اهتمامها على التخطيط الحضري؟ لقد تجرأت على فضاءات المشي لصالح العلب الإسمنتية التي تُربي العزلة والانطواء ونبذ الصورة التي كُنا نألفها.

يرى جيل أنّ الوظيفة التي كانت تلعبها المدن باعتبارها ساحة للفعاليات الاجتماعية والثقافية قد تقلصت على نحو مُرعب، وكأننا نقطنُ اليوم مُدنا خالية من الحياة الواقعية!

كلما عدتُ من قريتي إلى مسقط، اكتشفتُ أنّ الوظيفة الاجتماعية في طريقها إلى التبدد، جدران مُحصنة وبوابات مُغلقة، بينما على المدينة أن تكون زاخرة بالأنشطة والتجهيزات التي تقاوم عوامل الطقس، وتُراعي شرائح المجتمع المختلفة، وإلا غدت حياتنا ميتة!

فكل صيف نُراهن أن ننفتح على برامج غير محدودة ومدعومة من قبل مؤسسات الدولة للأطفال والمراهقين وحتى طلبة الجامعات، فعلى المدينة أن تزدهر بهم حقا. ولكن ذلك يحدث على نطاق ضيق ومتشرذم غالبا.

يرى جيل أنّ قوة المدن تنشأُ في اللحظة التي يُتاح فيها المجال «للتنقل الأخضر»، أي المشي، وعندما يتاحُ المجال للدراجات الهوائية جوار الساحات والفضاءات العامّة. ولعله يُفاجئنا بقوله: «بناء الشوارع الإضافية هو دعوة لاقتناء المزيد من المركبات»! بينما العديد من المدن القديمة شُيدت بوصفها مُدنا للمشاة أصلا، وقد يحل نمط التشجير معضلة المشي في درجات الحرارة العالية، فلابد من مدينة تُصادق البيئة وتُهيئ الظروف الملائمة للمشي في الحدائق العامّة وبالقرب من الشواطئ.

لابد من أماكن لا يُسمح فيها بمرور السيارات، لضمان نشوء علاقات أكثر بين الناس، لتبادل التحية والتحدث، والتواصل السمعي والبصري، قد يصل الأمر إلى بناء أحاديث ذات اهتمامات مشتركة، بدلا من القطيعة المُفتعلة التي تنهض عليها مدن اليوم!

الرفاهية المصطنعة التي جلبتها أنهارُ التقنية الحديثة قلصتْ حاجة الناس للخروج من البيت، وفي أحسن الأحوال اختزلت حياة مدن بأكملها في المجمعات التجارية الكبيرة.

يربطُ يان جيل الحركة في المدينة باللغة أيضا، فنحنُ عندما نتحدثُ مع الناس نخلقُ كلمات، نتبادل الود، وقد نُدير ظهورنا ونبعث نظرات باردة، نُولدُ قواميس مغايرة من المعاني في كل مرّة، مما يعني حيوية تصل إلى إيماءات جسدنا، وعليه فتخطيط المدن اليقظ والمتأني ينبغي أن يتصل بمعرفة أصيلة بحواس الإنسان وأنماط عيشه وثقافته.

«تتغير طبيعة الاتصال بين البشر في المسافات القصيرة عنها في المسافات الطويلة»، ويُمكننا مراقبة ذلك حقا، فالناس الذين ينظرون لبعضهم من مسافات قصيرة كما هو حالنا في القرى، يختلفون عن أولئك الذين تفصلُ بينهم الفضاءات الكبيرة والمباني الشاهقة، فهم غالبا يتصفون بالفتور في العلاقات الاجتماعية، بل قد تشوش ضخامة المباني علاقتهم بأحجامهم الطبيعية أيضا.. هكذا -دون مبالغة- تطبعنا المدن بطباعها!

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير «نزوى»