حمير العامرات والمدينة العرجاء!
09 نوفمبر 2025
09 نوفمبر 2025
على صوت نهيق الحمير في العامرات استيقظنا صباحًا. نهيقٌ حزينٌ يشقُّ السماء، ربما ضاع ابنٌ لأمٍّ منها، أو تعرض أحدها لحادث دهس! ذلك يحدث دائمًا.
وكم يبدو مؤلمًا أن نجد واحدًا منها مُعلِّقًا ساقه المكسور دون ضماد، بينما العينان الحزينتان تقولان الكلام الناقص!
نهيقٌ يُذكّرنا بأن وجودها سابقٌ لوجود المدينة. إذ لم يُقذف بها من مجرة أخرى، نحن من داهم حياتها بجرافات صمّاء وأسماء مشاريع براقة، نحن من أحال فضاءها الحر إلى إسمنت وأرصفة، والهضاب إلى تقسيم سكني مجحف!
نغضبُ من أصواتها المنفرة، من قطعها للطريق غير مبالية بزحامنا البشري، من اعتدائها السافر على حدائقنا، ثم نسأل أنفسنا: من أين تنبثق؟ فبينما تحاولُ المدينة الظهور ككيان مُتحضر؛ شوارع مُنظمة، بوابات حديدية، مراكز تسوق، ولوحات إعلانية لامعة؛ تتسرب الحقيقة كل صباح عبر حوافرها الصغيرة التي تُذكّرنا بتاريخ لم يُمحَ بعد!
فالحميرُ، وإن بدت رمزًا لترييف المدينة المُتخيلة، فهي أيضًا رمزٌ لعجلات المدينة اللاهثة فوق الطبيعة. فقد لا يكون وجودها هو الخلل؛ وإنّما محاولتنا المستمرة محو صورتها عن وجه المكان!
تذكرتُ قصة «منازل مضيئة» من المجموعة القصصية «رقصة الظلال السعيدة» لأليس مونرو، التي تحكي قصة المرأة التي كانت تُربي الدجاج، ولديها عنزة تعتني بها، وراكون اعتادت إطعامه.
كان الجيران في غاية الاستياء منها، لشعورهم العارم بأنّها تُشوّه المدينة. بدا لهم الأمر وكأن منازلهم الراقية تجاور حظيرة!
فكروا بكل الحلول المتاحة للتخلص منها، لدرجة أن أحدهم قال: «لو كنتُ أجاور كوخها، لكنتُ أرسلتُ أطفالي ليلعبوا بالثقاب». بينما قال آخر: «سأتوقفُ عن شراء البيض منها، فالمتجر الكبير يبيعه بثمن أرخص، ثم من يعبأ بكونه طازجًا!». إلا أن صوتًا عاقلًا واحدًا قال: «لقد عاشت هذه المرأة هنا قبل أن يُولد معظمنا!»
فبدلًا من الوقوع في شرك الشكوى والتندر، يمكننا التفكير في مقاربة أخرى: لماذا لا نصنع مكانًا لائقًا لها؟ محمية صغيرة تُتيح لأطفالنا الذين لا يرفعون رؤوسهم عن أجهزتهم، تأمل هذا الحيوان الذي يتقاطع تاريخه مع تاريخ البشر منذ آلاف السنين، والتمتع ولو قليلًا بفسحة إطعامها والاقتراب منها وامتطائها، والاتصال بسمات الحياة البرية دون خوف، مقابل تذاكر رمزية للدخول تُساعدُ على تأمين غذائها ودوائها والتفاصيل الخدمية الأخرى.
حمير العامرات ليست «نكتة» على هامش الأحاديث، وليست وصمة عار على الأهالي الذين يشاركونها الحيز المكاني المُشترك، بل فرصة لأن تتعلم المدينة وأبناؤها كيف يتصالحون مع الطبيعة التي يمضي العالمُ لإلغائها!
ورغم أنّ هذا المقترح قد يُحوّل «الطبيعة إلى عرض يُشاهد فقط، لا كائنًا يعيش»، كما يقول المصور والكاتب Zed Nelson في أحد مقالاته، مُنتقدًا كيف أصبحنا نستبدل الطبيعة الحقيقية بعروض حضرية مصطنعة، إلا أنّه أيضا محاولة ضئيلة لترميم ما اقترفه الإنسان، فقد تراجعت علاقته بالطبيعة بأكثر من 60% خلال قرنين من الزمان.
ولكم أن تتخيلوا كيف أنّ اختفاء بعض الكائنات من حياتنا يعني اختفاء كلمات من معجمنا، بل يعني انفصالًا نفسيًا وثقافيًا عن البيئة الأصلية!
ولا أدري حقا لماذا يظهر تناقضنا عارمًا؛ إذ نُسارع لإنقاذ طائر مُهدد بالانقراض، ونبني الأسوار العالية لغزالٍ خائفٍ من الصيادين، ونتسابقُ لتصوير سلاحف تفقسُ من بيضها على الشاطئ، بل إن النجوم في عليائها حصلت على محمية تقي فضاءها من تلوث المدن. ولكن عندما نقول «محمية للحمير»، يتغامز البعض ضاحكين لمجرد تخيل رغبتنا في حمايتها!
تشير دراسة نُشرت في مجلة Science Advances، نقلتها The Guardian، إلى أن توسع المُدن لا يؤدي إلى بناء الطرق وشبكات العمران فقط، بل يؤدي إلى تقليص المساحات الحيوية التي تعتمدُ عليها الكائنات الأصلية، مما يدفعها إلى الاقتراب أكثر من المناطق السكنية بحثًا عن الغذاء وفرص البقاء!
الحمار الذي حمل أثقالنا منذ فجر الحقول البعيدة، في السراء والضراء، في السفر والحروب، قرنته الآداب العالمية والعربية - للأسف - بصفة الغباء والشقاء، وحرمته قاعدة «التنوع الحيوي» من مقعده الأصيل!
إنّ الصورة التي لا أستطيع تجاوزها حقًا، هي صورة الحمير العرجاء الجافلة والخائفة، وأنين حوافرها فوق رصيف صلب، حميرٌ عرجاء كعرج المدينة!
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»
