تذكار ذاتي على هامش إحياء ذكرى حسين غباش

21 أبريل 2024
21 أبريل 2024

--1 --

في مساء يوم الثلاثاء الماضي، الموافق 16 من أبريل الجاري، شهدت مؤسسة بيت الزبير في مسقط أمسية تذكاريَّة، احتفائيَّة واستعاديَّة للكاتب والمفكِّر الإماراتي الرَّاحل حسين عبيد غباش (1951 - 21 يوليو 2020)، حيث استضيفت الدكتورة رفيعة عبيد غباش، أخت الفقيد الراحل في عائلة عُرف أفرادها من الجنسين بالتَّنوُّر والانخراط المبكر في الشأن الوطني سياسيَّا وثقافيَّا (وفي هذا فإنها أول طبيبة نفسيَّة في الإمارات، كما أنها باحثة في الشأن الثقافي والتاريخي والاجتماعي هناك بما في ذلك موضوع المرأة المُغَيَّب، وكانت قد شغلت منصب رئاسة جامعة الخليج العربي في البحرين)، والتي أصدرت مؤخرا كتاب «حضر بعد رحيله: المفكر الدكتور حسين غباش» تضمَّن شهادات وذكريات من عرفوا الفقيد عن قرب. وقد سردت غباش محطات من سيرة عائليَّة وموضوعيَّة جمعتها بالراحل، مضيئة في ذلك جوانب من التطَّورات، والتحولات، والمراجعات، التي صاغت شخصيته الفريدة، وصقلت مواقفه وانحيازاته المحليَّة، والإقليميَّة، والقوميَّة، وقناعاته، وإرثه، بدءا باعتناقه الفكر اليساري (تنظيميَّا، ثم خارج ذلك) في بواكيره العُمريَّة والفكريَّة والسياسيَّة، حيث كانت بلاده، والمنطقة بعمومها، في وارد التعامل مع القرار البريطاني بالانسحاب من شرق السويس، وذلك في ظل تنامي الحركات الوطنيَّة الراديكاليَّة كما في حالة عُمان التَّاريخيَّة والبحرين، هذا في الوقت الذي ظهرت فيه تحديات وتهديدات إقليميَّة ذات شأن من الضِّفة الأخرى للخليج، ومرورا بقناعاته السياسيَّة المتلخِّصة في إمكانية العمل الليبرالي من خلال البُنى القائمة لمؤسسات السُّلطة (ولعل هذا كان يصحُّ في حالة الإمارات، خاصَّة في ذلك الوقت، أكثر من غيرها) حيث كان المرحوم -في الردح الوسيط من حياته- ممثلا وسفيرا لبلاده في عدة بلدان ومواقع منها كونه مندوبا دائما لبلاده في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، وانتهاء بالشَّغف الرُّوحي والصُّوفي الذي وسم المرحلة الأخيرة من حياته الثريَّة والقلقة إلى حدٍّ كبير.

في خضم مجهوده الفكري الخصب، وبحثه المعرفي الدؤوب، ومشاركته الآخرين فيما يقول ويفعل، تقلَّد الرَّاحل مهنة التدريس الجامعي في جامعة القديس يوسف في لبنان، كما أصدر عدة كتب منها «فلسطين: حقوق الإنسان وحدود المنطق الصهيوني» (1987)، «الإمارات والمستقبل وقضايا راهنة»(2008) ، «الجذور الديموقراطيَّة في الخليج: الكويت والبحرين» (2010)، «التصوف: معراج السالكين إلى الله» (2016)، و«محمد صلى الله عليه وسلم: قراءة حديثة في سيرة رسول النور والسَّلام» (2018).

بيد أن أهل التاريخ والثقافة والسياسة على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، هنا في عُمان، يعرفون الراحل أكثر ما يعرفون، ويذكرونه بالامتنان والتقدير أكثر ما يذكرون، ويتفقون معه (ويختلفون بودٍّ وأريحيَّة أيضا) بسبب كتابه المرجعي الذي صار يُشار إليه بالبنان «عُمان: الديموقراطيَّة الإسلاميَّة: الإمامة والتاريخ السياسي الحديث 1500 - 1970» الذي صدر بعدة طبعات ومن غير دار نشر، وقد كان في الأصل أطروحة دكتوراة أنجزها الراحل بالفرنسية في أثناء إقامته الدبلوماسيَّة في باريس.

في حضوري لتلك الأمسية التأبينيَّة والاستعاديَّة المستحقَّة بجدارة عالية، والتي بدأت بالإشارة إليها هذه المادة» قرع في ذاكرتي جرس أعادني ثلاثا وأربعين سنة إلى الوراء في الزمن والذاكرة، أي إلى عام 1981 الذي، فيما يخص هذا التِّذكار الذَّاتي، صدر فيه كتاب يكاد يكون مجهولا للرَّاحل غباش (وأرجِّح أنه كتابه الأول) هو «أميركا وحقوق الإنسان في العالم الثالث: فلسطين، إيران، جنوب إفريقيا» (دار الكلمة التي كانت، عهدذاك، معروفة بإصداراتها النَّوعيَّة، بيروت). في ذلك الحين كنت فتى غرَّا ذا سبعة عشر عاما، مفعما بالأشواق، والأحلام، وتطلَّعات التغيير نحو مستقبل أفضل. وكنت، مثل كثير من العُمانيين في ذلك الوقت، أعمل عسكريا في القوات المسلحة لدولة الإمارات. وفي ذلك الوقت، أيضا، كانت مجلة «الأزمنة العربيَّة» الأسبوعيَّة، في صدورها من الشارقة، تشاكس بصورة غير مسبوقة (والحقيقة، غير ملحوقة أيضا) الوضع السياسي، والثقافي، والاجتماعي السائد وتثير الأسئلة من منظورٍ تقدُّمي (وقد تكبدت الكثير في ذلك المسعى من الإيقافات المؤقتة عن الصدور حتى قرار المنع النهائي الذي جعلها تهاجر للصدور ورقيَّا من لندن، ثم اكتفت بالصدور الإلكتروني، ثم توقفت نهائيَّا بمحض قناعات ذاتيَّة وموضوعيَّة تتعلق بقراءة إمكانات وآفاق المرحلة). اتخذت «الأزمنة العربيَّة» من الضَّبع شعارا لها؛ فهو حيوان خسيس، ولئيم، ونذل، ودنيء، ولا يتورَّع عن مطاردة الفرائس الجريحة حتى يهجم عليها وهي غير قادرة على الدِّفاع عن نفسها، ويأكل الجِيَف كما هو حال الأزمنة العربيَّة بالضبط (وبالمناسبة، أروع أفلام المخرج السِّينمائي السَّنغالي الرَّاحل جبريل ديوب مامبيتي، من وجهة نظري الشَّخصيَّة، هو «الضِّباع»، حيث رأى المبدع الكبير في تلك الكائنات الوضيعة مجازا مُحكَمَا لإفريقيا ما بعد الكولونياليَّة). لقد كنت، في ذلك الوقت، أعني أوائل الثمانينيَّات، أتهجَّى أوائل دروسي وتجاربي في القراءة، والغضب، والكتابة، والتعبير. في ذلك السياق، إذا، ابتعت نسخة من كتاب غباش آنف الذكر في 2 سبتمبر 1981 (لا يزال التاريخ مدوَّنا في الصفحة الأولى من الكتاب الذي لا أعرف كيف احتفظت به لغاية الآن مكتبتي الصغيرة في تبعثرها، وفقدان معظمها، وعدم استقرار ما تبقى منها في مكان واحد حتى مؤخرا بعد عودتي النِّهائيَّة إلى الوطن). تناغم كتاب غباش بالكامل مع معلوماتي، وأفكاري، وأشواقي حينها؛ فوجدت نفسي أكتب عنه بحماس أول مراجعة لكتاب أقوم بها، وأرسلها بالبريد إلى مجلة «الأزمنة العربيَّة» التي كانت قد نشرت بعض محاولاتي الكتابيَّة من قبل جريا على نهجها في تشجيع الأصوات الجديدة. وقد سعدت للغاية أن المراجعة (التي حين أقرأها الليلة أرى أنها تفتقر لكثير من أصول هذا النوع من الكتابة) قد نشرت في الصفحة رقم 22 من العدد رقم 133 الصادر في 6 أكتوبر 1981.

يبقى عليَّ القول إنني، للأسف، لم ألتقِ حسين غباش أبدا، لا قبل نشر مراجعتي لكتابه ولا بعده، ولكننا تبادلنا سلامات وتحيَّات شفهيَّة عبر صديقنا المشترَك العزيز الراحل بدوره الرِّوائي العُماني أحمد الزبيدي. وإنني أشكر بيت الزبير لتنظيم ورعاية تلك الأمسية ليس فقط لأنها من المستَحق لمن يستحِق، ولكن كذلك، على صعيد ذاتي، جعلت هذا التذكار الصَّغير يقفز من الذاكرة ويحضر في زمن صار فيه التَّشبُّث بالذاكرة سلاحا ونجاة. وأورد تاليا مراجعتي الفقيرة عن كتاب حسين غباش آنف الذكر (ومجهولِه تقريبا) كما نشرت في ذلك العدد القديم من «الأزمنة العربيَّة».

--2--

«دعاوى الغرب حول حقوق الإنسان تتساقط..

أميركا وراء القمع والتخريب»

«إن الحديث عن حقوق الإنسان هو المدخل إلى رؤية ضحايا الغرب والأنظمة الدكتاتوريَّة في العالم الثالث من كل أبوابه. وهذه الرؤية تكشف عن جراح الإنسان وآلامه في عالمنا المعاصر. التاريخ لم يتجاهل تدوين هذه الانتهاكات، وتثبيتها، وإدانتها، وإعادة تأكيد ما كتبه جون بول سارتر في مقدمة كتاب «معذبو الأرض» (لفرانز فانون):«إن ضحايانا يعرفوننا بواسطة جراحهم وأغلالهم، وهذا ما يجعل شهادتهم صادقة لا ترد». إن المجرم مرة أخرى هو الغرب، ففي عهود ما زالت طريَّة في الذَّاكرة، كانت أوروبا هي المقصودة بكلمة «الغرب». أما في العصر الحاضر، فإن أمريكا هي التي تحتل مكان الصَّدارة في هذا الغرب. إن رجال إدارتها يتحدثون اليوم عن حقوق الإنسان، تماما كما كانت فرنسا في الخمسينيَّات تصرخ عبر رجال سياستها: «حريَّة، إخاء، مساواة»، بينما كانت فرق المظليِّين تحصد الجزائريين بالآلاف على دوي أبواق السيَّارات:«الجزائر فرنسيَّة».

بهذا يفتتح حسين غباش كتابه «أميركا وحقوق الإنسان في العالم الثالث: فلسطين، إيران، جنوب إفريقيا» الذي صدرت الطبعة الأولى منه عن دار الكلمة للنشر في بيروت في مائة صفحة من القطع الصغير. أما فحوى الكتاب فهي -على لسان مؤلِّفه-: «إن دعوانا الإنسانيَّة مكشوفة العورات، غير جميلة. إنها لم تكن غير أيديولوجيا كاذبة. لقد كانت تسويغا مزوَّرا للسَّلب والنهب». هذا ما يقوله سارتر. وأمريكا على أعتاب القرن الحادي والعشرين، ما زالت توالي البرهنة على صحة هذا القول. والأمر يعنينا جميعا، فالتَّطور الصارخ أزال الفواصل بين الضَّحايا. إن المواطن الأسود في جنوب إفريقيا، والفلسطيني في الأرض المحتلة، والطالب المحاصَر بأجهزة القمع في باقي الأنظمة العربيَّة، في معظمها -إن لم يكن فيها كلها- هم ضحايا عدوان واحد. إن التَّخلف هنا يكتسب طعمًا مُرَّ المذاق، فالفتاة المغتصَبة في سجون إسرائيل هي نفسها الفتاة المغتَصَبة في سجون «الشَّرعيَّة»، حيث حريَّة الاختيار معدومة. أما دعاوى الغرب عن حقوق الإنسان، فهي تتساقط عند حدود العالم الثالث، وهذا ما يحاول هذا الكتاب إثباته».

الكتاب مقسَّم إلى ثلاثة أقسام، يتبع كل قسم عدد من الفصول، ويتبع كل فصل عدد من الفقرات على النحو التالي:

القسم الأول - فلسطين:

الفصل الأول: لمحة تاريخيَّة موجَزة: فلسطين في التاريخ الإنساني، الحقبة الحديثة، أصول الصهيونيَّة.

الفصل الثاني: إنشاء إسرائيل: ما قبل عام 1948، وعد بلفور، الاستعمار الاستيطاني «انتزاع أراضي العرب - التمييز في القانون - الحرمان من المنافع الاجتماعيَّة - الحرمان من الحريَّات السياسيَّة» - المستوطنات.

الفصل الثالث: السياسة اللاإنسانيَّة للصهيونيَّة: التعذيب، الأمم المتحدة، تقرير اتحاد المحامين الوطني الأمريكي، تقرير زعبي (سجين فلسطيني).

الفصل الرابع: نتائج وتوقعات: مستقبل فلسطين، المعارضة اليهوديَّة، المتضمَّنات (الآثار) الإقليميّة.

القسم الثاني: إيران:

الفصل الأول: لمحة تاريخيَّة موجزة: عهد رضا شاه، عهد محمد رضا شاه (المرحلة الأولى)، مصدَّق وتأميم النفط، انقلاب المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة.

الفصل الثاني: إيران في ظل الهيمنة الأمريكيَّة: «الثورة البيضاء»، العلاقة مع أميركا وتدفق الأسلحة إلى إيران، «1947-1951 - الوفود العسكريَّة، 1955 حلف بغداد، 1957 السافاك، أواخر الستينيَّات، عهد نيكسون».

الفصل الثالث: السياسة اللاإنسانيَّة لنظام الشاه: حقوق الإنسان في إيران، السجل التاريخي للسافاك (التعذيب والمحاكمات).

الفصل الرابع: مستقبل حقوق الإنسان في إيران.

القسم الثالث - جنوب إفريقيا:

الفصل الأول: لمحة تاريخيَّة موجزة: مقدِّمة، التاريخ المبكر لجنوب إفريقيا، وصول البريطانيين، الرحلة العظيمة (الهولنديَّة).

الفصل الثاني: سياسة التمييز العنصري: الحقبة الحديثة، تطبيق سياسة التمييز العنصري (سياسة الأراضي المنفصلة للإفريقيين ودفاتر المرور، الحقوق السياسيَّة، الحقوق الاقتصاديَّة، التطورات الحديثة المتعلقة بالعمل، الحقوق الاجتماعيَّة).

الفصل الثالث: تمرُّد «سويتو» واحتمالات التغيير: تمرُّد «سويتو»، بعد «سويتو»، الضغط الدولي، احتمالات التغيير.

والكتاب يكتسب أهميته من كونه دراسة علمية مدعَّمة بالحقائق، والشَّهادات، والأدلَّة، والتقارير عن الجرائم التي يرتكبها الغرب - وأميركا في المقدِّمة - في حق إنسان دول العالم الثالث التي تتجلى في أوضح أشكالها في الدول الثلاث. ويتعرض الكتاب لمدى ارتباط تلك الجرائم والانتهاكات ببعضها البعض بدءا من جذورها التاريخيَّة، ومرورا بملابساتها السياسيَّة، وانتهاءً بأصدائها وعواقبها المستقبليَّة. كل هذا بأسلوب واضح ومفهوم لجميع شرائح القراء بغض النظر عن تفاوت مستوياتهم الثقافية».

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني