النهضة الثقافية وجه عُمان
لا ريب أنّ عُمان في العشريّة الأخيرة تصدّرت المشهد الثقافيّ من خلال أنشطة أبانت وجهًا كان مغمورًا بقصديّةِ إهمالٍ وتجاهلٍ، وأبرزت حركيَّةً ثقافيّة بعضها كان نتاج أرضيّة اجتماعيّة وتعليميّة وبعضها كان نتاج إرادة ذاتية واجتهادٍ شخصيّ توفّرت له أرضيّات للتحقّق والتكوّن.
ولن أنحو اليوم منحى الإشادة بما بلغه النشاط الثقافي في عُمان من تفتُّح وصدارة، ولن أعمد إلى ذكر المحاسن والوجه النضر، وإنّما سأتساءل عمّا بعد الازدهار، عن خطّة اليوم التالي للتألُّق والتحقّق، كيف يُمكن أن ننمّي هذا الحسّ الثقافي الذي يُمكن أن يبدأ حال التدنّي والهبوط؟ كيف يُمكن أن نصنع من التصدُّر أرضيَّةً للأفضل ولبناء مشروع ثقافي حقٍّ.
تأتّت لي فكرة المقال بمناسبة تكريم الكاتب والمخرج المسرحي عماد بن محسن الشنفري رئيس مجلس إدارة الجمعية العُمانية للمسرح في أيّام قرطاج المسرحية 2025، وهو تكريم مبين عن الخطوة الهائلة التي يجتهد المسرح العُماني في بلوغها، وعن منزلة ناتجة عن نضالٍ حقيقيّ، وعملٍ دؤوب في ظلِّ قيود جمّة تعوق حركة المسرح، ومجتمع لا يتقبّل بيُسر أن يتخصّص أبناؤه في هذا المجال، وعالم ينقطع عن العروض الحيّة المباشرة ويستبدلها بثقافة رقمية سائدة، وهذا التكريم هو في أصله تكريم لجهود تاريخيّة وفّرت تراكما إبداعيّا مسرحيّا، ونتاجًا نقديّا وإصرارًا على الإبقاء على مسرح عُماني له خصوصيّته، بداية ممّا أسّسته المدارس السعيديّة ومرورًا بدور قسم المسرح في جامعة السلطان قابوس، وبدور الفرق الأهليّة المسرحيّة مثل فكر وفن، ومزون المسرحية وظفار والرستاق، وانتهاءً إلى تأسيس الجمعية العُمانيّة للمسرح، وفي هذا المقام يُمكن أن نذكر جهودًا جمعت بين الكتابة المسرحيّة والنقد المسرحي مثل كريم عبد الجواد وآمنة الربيع وغيرهما كثير.
وفي عالم السينما هنالك تراكمٌ شافّ عن عيون سينمائيّة تمتلك سعة الاطّلاع على السينما العالميّة مع الانغماس في محليّةٍ ترشح بمواضيع قابلة للحكاية المشهديّة، عالم السينما حمله رجال بنوا صورةً مشرقة عن السينما العُمانيّة نصوصًا وإخراجًا وفكرًا ونقْدا، على رأسهم الشاعر والسينمائيّ المنغمس في عالم السينما، المطّلع على تجارب مختلفة من السينما العالميّة عبد اللّه حبيب الذي أثرى المكتبة السينمائيّة العُمانية بعديد المؤلّفات وساهم بأفلام متنوّعة، كان لها عميق الأثر في إغناء المشهد الثقافي العُماني، وجمع بين الفعل السينمائي والتنظير والنقد والتحليل، وكان لشريطه "هذا ليس غليونًا" أثرٌ ووقع، إذ نال جائزة دوليّة في مسابقة الثقافة والفنون بالمجمع الثقافي في "أبو ظبي"، إضافة إلى عدد آخر من الجوائز والتكريمات المحليّة والعربيّة ولعلّ تكريمه وأعمالَه في مناسبات عديدة خير داعم لمنزلته الأساس، وهو في الحقيقة نتاج الدراية العميقة بالسينما العالميّة ونتاج تجارب سابقة أثّثت أرضيّة لتَكوّن الفرجة السينمائيّة من جهة والثقافة السينمائيّة من جهة ثانية، وقد صاحبه في هذا الفعل المؤثَّم، نُخبة من الفاعلين في الحياة الثقافيّة، مثل حاتم الطائي الذي أسهم بعدد من الأفلام، منها "السقوط"، "الوردة الأخيرة".
وقد تتوجّت هذه الجهود بتأسيس الجمعيّة العُمانية للسينما 2006، وبإنشاء مهرجان مسقط السينمائي (2005)، وأنتجت أيضًا عددا من السينمائيين الشبّان، مثل خالد الزدجالي، وسالم بهوان، وغيرهم.
السينما عالمٌ يتمثّل الرواية والقصّة والشعر والمسرح والفنّ التشكيلي والموسيقى ومختلف الفنون، ولا يُمكن أن ينهض أو ينمو بجناح واحدة، وإنّما يحتاج إلى نهضة ثقافيّة عارمة وعامّة ليتشكّل ويتمكّن من بناء مشاهد تُميل المُشاهِدَ.
أمّا الشعر فذاك بابٌ تُتوِّجه الشاعرة عائشة السيفي "أميرة الشعراء" بمقاييس العصر الحديث، وبرؤية الجوائز العربيّة، ولعلّها بهذا التتويج قد أسهمت في إضاءة ما تخفّى من شعر العُماني، غير أنّ الشعر العُماني كان مُتوَّجًا أبدًا في قديم العصور وفي حديثها، في عموديّ الشعر وفي حرّه وفي منثوره، لم تضف جائزة عائشة السيفي إلاّ أنّها شفّت عن عوالم شعريّة لأساتذة في الشعر كبار، كانت هي جزءًا من نتاجهم، الشعر العُماني المعاصر بكلّ ما يُمكن أن يبرز فيه وأن يتألّق محليّا وعربيّا هو نتاج مهاد شعريّ ثريّ، بناه رُوّاد في القديم مثل عبد اللّه الخليلي وميله إلى تأليف المسرح الشعري وسليمان بن سعيد الكندي وتنويعه في البحور الشعرية في القصيدة الواحدة، هذه الجهود التي تلفظ الركون وتطرد السكون أنبتت شعراء لهم أثرٌ وفعل في واقع الشعر العُماني، هم أساتذة الخطّ الشعريّ المحليّ وقد تركّزوا في موقع مهمّ من الشعر العربيّ، زاهر الغافري وسما عيسى وسيف الرحبي، وعن هذه المدرسة التي أبدعت في شعر التفعيلة وفي قصيدة النثر في بدايات مبكّرة، نتج جيل من الشعراء يُواصِل تجاربهم ويُثري حركيّة الشعر في عُمان.
وأخيرًا، الأدب القصصيّ والروائيّ، وقد أخذ من المنزلة عربيّا ودوليّا ما هو جديرٌ بها، ونوّع كُتّاب هذا النوع من طرائقهم وأساليبهم وطبيعة القضايا التي يعرضون لها، وصاغوا عوالم من الحكايات تجلب الرّاغب وتميل إليها الطالب وتستميل القصيّ والدنيّ، أسماءٌ عديدة بنت مجد القصص في سلطنة عُمان وأغنت جنسًا في الكتابة حادثًا، بدايةً من طواف بدرية الشحي، وبلوغًا إلى علي المعمري وهدى حمد وعبد العزيز الفارسي وسليمان المعمري وزهران القاسمي وجوخة الحارثي وبشرى خلفان ويحيى سلام، ما زالت تُنْهَب من الناشرين، ولا تجد سبيلاً -في أغلب أعمالها- للتفرّغ للكتابة، كما يفعل زملاؤهم الأقلّ شأنًا منهم في بلدان أخرى.
فماذا نفعل بهذه النهضة التي تضامّت وعمّت ومسّت السينما والمسرح والشعر والقصص والإعلام والفن التشكيلي والتصوير الشمسي، وأغلب الفنون والثقافات؟ هل نبقى "محلّك سر" وننتفخ بما لنا من نهضةٍ تأخّرت آثارها وتأثيرها؟ أليس من الواجب تلقّطها واقتطاف أزهارها وبذر بناتها وأبنائها لتشعّ وتنمو؟ أعتقد أنّ أهل الأمر لهم الدور الأجلّ في تدويل هذه النهضة وفي توفير المناخ الملائم للعناية بقطاعات في الثقافة تحتاج أساسا وأوّلا إلى "قوام الأعمال" إلى المال، وتحتاج أساسًا إلى رؤية واضحة لتنهض بما نهض، ولترعى ما تصدّر، أمّا البقاء حيث نهضنا، فإنّ ركود الماء يُفسده، والبقاء في القمّة سقوط (رغم أنّ القمّة لا تُحَدُّ)، والنار قد تُورثُ الرّماد إن لم نُذكِها.
وتبقى سمة النهضة الثقافيّة في عُمان موسومة بما نعت به الأستاذ سما عيسى الحركة الشعريّة "نقرأ التجربة الشعرية الراهنة، انطلاقًا من منجزها التاريخي، والصوت الشعري العُماني الراهن، وإن كان أكثر اقترابًا من منجز الحداثة الشعرية العربية في عقودها الأخيرة، إلا أنه من جهة موضوعات شعره، يتميز بتدفق عطاء أسلافه التاريخي، وأي قراءة نقدية جادة له، عليها الالتفات إلى المنجز التاريخي حتى يتبين لها خصوصية وخصوبة الصوت الرثائي والصوفي، واتساع مساحة ثيمات الموت والرحيل والفراق والهجر في تجارب شعرائها".
هذه المراوحة بين المنجز التاريخي والاقتراب من الحداثة دون الاكتواء بنارها والذوبان فيها هي سمة الحركة الثقافيّة في عُمان، فلعلّه أن يأتي اليوم الذي تُضبَطُ فيه النهضةُ الثقافيّة بعقل تجاربيّ حاسوبي، رياضي، يضع خطّة عشريّة أو خمسيّة لبلوغ أهدافٍ تُرصَد لها أموالٌ، ولعلّه يأتي اليوم الذي يُدرك فيه أهل الحلّ والربط أنّ الأثر الثقافيّ هو قيمةٌ تسويقيّة للبلاد وشعبها وتاريخها لا تُماثله قيمة، وأنّ الفعل الثقافيّ هو الباقي وهو الأجدر والأجدى.
