العصيان والستر «2»
تُوصَل السيرة الذاتية في جانب مهم منها إذن «بالذات الكاتبة» التي تتحوّل إلى موضوع حكايةٍ، إذ تنكشف وتكشف من حياتها ما تراه جديرا بالعلم، ولذلك فإنّ هذه الذات الكاتبة قد تدخل في تعريةِ دواخلها و«الاعتراف» بمكبوتٍ ظلّ حبيسا، ولكن هذا يقتضي أن تكون للذات الكاتبة حكاية تحكيها، أن تتحدّث في انكسار النفس، وأن تُظهر المشاعر الحقيقيّة تُجاه الناس، لا أن تقاصر على تمجيد الذات وإظهار البطولات والنجاحات، وما ظهر من مسار الشخص، وهو طريق يختلف إلى حدّ كبير عن «الترجمة الشخصيّة» أو «كتابة المذكّرات» أو «اليوميّات»، فالسيرة الذاتية نوع من القصص الذي يجري عليه ما يجري على القصص، ولكن ألا يُمكن أن تنحصر السيرة الذاتية في المعهود المعلوم؟ ألا يُمكن أن تكون السيرة كشفا لجانب من جوانب حياة عَلَم؟
هذا سبيلٌ في كتابة الذات مشروعٌ ومعلومٌ، ويُمكن أن يقتصر الكاتب على مسار علميّ أو عمليّ أو رحليّ أو إبداعيّ في صلته بأعماله، ولكن الظاهرة العامّة حتّى في الاقتصار على هذا المسار الجزئيّ أنّ الكاتب العربيّ -على وجه التعميم- يظلّ محافظا على صلاته بالنّاس، وعلى صلته بنفسه، لا يقول إفصاحا ما ينبغي أن يقول، بمعنى أوضح تظلّ السيرة الذاتية العربيّة رهينة مراقبة العقل الاجتماعي والعقل الدينيّ (ونُجري حدّ العقل هنا بمعنى القيد). وقد توفّرت في تاريخ الحضارة العربيّة عديد الكتابات الداخلة في أدب الذات، والتي تُعَدّ ترجمة شخصيّة أو ذاتية للكاتب، بمعنى أن يتحدّث عَلَمٌ عن مسيرته الوجوديّة أو التاريخيّة أو الفكريّة، فهل نعتبر هذه الأعمال من قبيل السير الذاتيّة؟ حتما -نقديّا- لا تُعتَبَر سيرا ذاتيّة، وإنّما السيرة الذاتيّة جنس أدبيّ حادثٌ، لا تدخل فيه كلّ الكتابات التي تتحدّث عن الذات، وأهمّ ما يُميّز هذه الكتابة أنّها قصّة، حكاية، تستدعي أسلوبا في القصص يُخرجها من حَرفيّة التحدّث عن الذات إلى تخييليّة القصص، ولنا أن نُبين ذلك ببرهان مختلف، أيّ بما كُتب عن الذات في تاريخ الحضارة العربيّة ولا يُعَدّ من السيَر الذاتيّة. ويُمكن أن نعرض للقارئ في هذا الجزء قسما من أعمالٍ أدبيّة في التراث العربيّ دخل فيها أصحابها في سرد وقائع حياتهم.
لقد كتب عددٌ من الفلاسفة والمفكّرين والأدباء وأصحاب العلم والعمل والحال أجزاء من مسار حياتهم، وقد شملت هذه الكتابة الذاتيّة ترجمات لسِيَر رجال في المجالات التالية أساسا؛ الفلسفة، الأدب، التصوّف، السياسة. ففي الفلسفة يُمكن أن نُشير إلى حُنين بن إسحاق (ت 260 هـ) وهو أكبر مترجم لكتب جالينوس، وقد عانى من حاشية المتوكّل ومن حُسّاده من أشباهه ونظائره ما جعله يشكو ما أصابه، فكتب رسالة في بيان المِحن التي عَرَضَته، وقد وردت الرسالة في كتاب «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة، يقول ابن إسحاق في رسالته: «إنّه لحقني من أعدائي ومضطهديّ الكافرين بنعمتي، الجاحدين لحقّي، الظالمين لي، المتعدّين عليّ، من المحن والمصائب والشرور ما منعني من النوم وأسهر عيني وأشغلني عن مهمّاتي. وكلّ ذلك من الحسد لي على علمي وما وهبه اللّه عزّ وجلّ لي من علوّ المرتبة على أهل زماني. وأكثر أولئك أهلي وأقربائي، فإنّهم أوّل شروري وابتداء محني»، ويسترسلُ في بيان صلاته وعلاقاته وما جدّ معه من كَدَر الدنيا وغدْر الصُحْبة. ويعمل ابن الهيثم أيضا إلى صناعة رسالة يعرض فيها مسيرته العلميّة والفلسفيّة، مفصّلا مراحل حياته العلميّة والعلل التي حدت به إلى انتهاج نهج العلم وتقصّي أبعاده. وقد ترك الشيخ الرئيس ابن سينا ترجمة ذاتية قصيرة، يعرّف فيها بنشأته وبتقلّبه في مدارج طلب العلم، وقد جاء فيها قوله: «قال الشيخ الرئيس: إنّ أبي كان رجلا من أهل بلْخ، وانتقل منها إلى بُخارى في أيّام نوح بن منصور الساماني أمير هذا الإقليم، واشتغل بالتصرّف وتولّى العمل في أثناء أيّامه بقرية يُقال لها خرميثن». وحدِّث بإطْناب وإسْهاب في تعرّض الأدباء إلى أقسامٍ من حياتهم، أو مراحل يرونها جديرة بإطلاع القارئ عليها، ولعلّ أهمّ من كانت الذاتُ محورَ نثْره، أبو حيّان التوحيدي، الذي شكا الزمان والصداقة وسوء الحال وانقلاب الأحوال في أغلب ما كتب، ومن ذلك ما ورد في كتابه المعلوم «الصداقة والصديق»، الذي يقول فيه: «فقدتُ كلّ مؤنس وصاحب ومرفق ومشفق، واللّه لربّما صلّيت في المسجد فلا أرى إلى جنبي من يصلّي معي، فإن اتّفق فبقّال أو عصّار أو ندّاف أو قصّاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسْدرني بصنانه وأسكرني بنتنه، فقد أمسيتُ غريب النِّحْلة، غريب الخُلق، مستأنسا بالوحشة». ودخل ابن حزم الأندلسيّ في كتابه «طوق الحمامة في الألفة والأُلاف» في ملامسة الممنوع والمسكوت عنه، إذ «انفضح» وتجرّد، وأورد قصصا عن حياته عاشقا ولها، وعن صلاته بالنساء. ويُوجّه ابن الجوزي رسالة إلى ابنه يتّخذ لها عنوانا «لفتة الكبد»، يتحوّل فيها إلى موضوع إخبار، وإلى مضرب أمثال، ويقصّ قسما من حياته على سبيل الاعتبار. باب ثالثٌ تكون فيه الذات محور إخبار، وتتحوّل من ذاتٍ كاتبة تنظر في الأشياء والأعيان والأحداث إلى موضوع للنظر والرواية، وهو محور المتصوّفة الذين أقاموا عوالم تداخل فيها المرجعيّ العينيّ مع التخييلي، يُمكن أن نذكر منهم أبو يزيد البسطامي وأبو حامد الغزالي في رحلة اكتشاف برْد اليقين بعد حُرقَة الشكّ، وابن الفارض في قصيدته «نظم السلوك»، وابن عربيّ خاصّة في فتوحاته المكيّة. ثمّ أخيرا مجالٌ رابع احتوى السياسيين الذين تقلّدوا مناصب في تدبير شؤون الناس ورأوا أنّ تجربتهم تلك حقيقة بالذكر والتدوين، ومهم -على سبيل التمثيل- أسامة بن منقذ في كتاب «الاعتبار» وهو كتاب دوّن فيه صاحبه مسيرته السياسيّة، وهو كتاب يقترب إلى حدّ كبير من المذكّرات، وكذا الأمر مع ابن خلدون المؤرّخ المعروف الذي تولّى عديد الوظائف في بلاد المغرب وفي غرناطة، ودوّن هذه المسيرة في كتاب «التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا». حتما، إنّ هذه الأخبار المتفرّقة التي تُتَرجم لمسيرة هؤلاء الأعلام لا يُمكن أن تدخل في جنس أدبيّ حادث له أصوله النظريّة وقواعده، وإنّما هي تراجم أو رحلات أو أخبار أو وصايا أو رسائل أراد منها أصحابها التعريف بأنفسهم أو الشكوى من حال لمقاصد متعدّدة.
في العصر الحديث هنالك أدباء بعد أن ترسّخوا في مجال الأدب توّجوا رحلتهم بكتابة سيرهم الذاتية، غير أنّ الطريف الغريب أن يبدأ كاتبٌ حياته الأدبيّة بكتابة سيرة ذاتيّة ثمّ ينفتح على عالم الأدب فيكتب الرواية!
