السائحُ في تأملاته

01 أغسطس 2021
01 أغسطس 2021

في الحظر الذي ترافق مع إجازة العيد، كنتُ أبحث عن قراءة مختلفة، فقرأتُ "الحكايات والأساطير العُمانية المرتبطة بالمكان"، الواقع في جزأين، أحدهما في شمال الباطنة والآخر في شمال الشرقية، وصدرا عن وزارة السياحة. وقد عرّج الكتابان على التصورات المرتبطة بالأشجار والقلاع والعيون والأضرحة..

ثمّة لذّة غامرة وأنت تقرأ عن الأفلاج التي تظهر وتختفي وتئن تحت الأرض. يُصغي لها أجدادنا بانتباه شديد. صوت "عين صهبان" كنقع المدافع، بسبب الماء المحتبس فيها، ولكنهم ما أن بدأوا خدمة العين حتى خرج لهم الماء بلون أحمر، فتركوها لغيرهم!

ستشعر بالغرابة بشأن الرجل الذي قال لا تغسلوني في "فلج الشارق" ولكنهم غسلوه عقب وفاته فمات ماء الفلج لسنوات طويلة! ورغم أنّ "بدي الجش" يبعد 15 كم عن البحر إلا ماءه عذب، يشرب منه المستريحون من وعثاء السفر.

أمّا قصة رجل بلدة القاع الذي حلم بشخص يقول له: "اخرج من قريتك ولا تلتفت"، فخرج متعجلا ورأى نارا تهبط عليهم من السماء، فتلك قصة تدعو للتأمل في امتزاج القصص الدينية بالمخيال الشعبي.

تشعر بأنّك دخلت لقصص القلاع السحرية، ما أن تقرأ عن مكان يسمى "حورا الكافر أو حورا البنيان" حيث سكن الفرس والبرتغاليون في حقب تاريخية مختلفة، يقال إنّهم شقوا نفقا طويلا يربط "حورا الكافر" بقلعة صحار، يقدر بـ30كم، لتتمكن الخيول والرسائل وماء الفلج من العبور وقت الحروب إلى القلعة. يُظن البعض أنّ العفاريت قامت ببناء النفق، ويظن بعض آخر أنّه يعود لزمن الجاهلية.. بقيتُ لعدّة ليالٍ أسمع ركض الخيول في النفق المخفي!

يمكنك أن تضرب مسمارا في جذع شجرة "الماشوة" العريض لتتخلص من آلام أسنانك. تلك الشجرة بجذعها الضخم والذي لو التف حوله عشرون رجلا لزاد عليهم من فرط ضخامته. لكن عندما قُطع الجذع لصيانة الفلج عاد إلى مكانه على مرأى العيون! أمّا الجني "فتوح" الماكث قرب البحر، فمهمته الوحيدة ترويع الناس، كما تروعهم قصص "مصطاح السحر"!

الباخرة القادمة من الغيب، والتي لا يُعرفُ من أي بلد جاءت، استنجدت بالناس في الخويرات، فقد كان بصحبتهم رجل ميت، تسارع الناس لتقديم المساعدة فغسلوه وكفنوه. لكن الرجل مجهول الهوية تحول لشخص مبارك، عندما ملأ النور وجهه. كالمرأة الملثمة والتي تقود جيشا وتحمي القرى من العصابات وقطاع الطرق، فقد وجدوها ميتة، ولم يكن معها أحد من جنودها ولا خيولها، لكن وهج النور كان كفيلا بتحويل قبرها لشيء مقدس.

ستفكر كثيرا بأهالي جبل الغدانية الذين وضعوا ذهبهم وفضتهم وقروشهم في البئر، كي لا يستفيد منها محمد بور الظالم الذي دمر قريتهم وأفلاجهم، وستتعجب من دهاء أبو زيد الهلالي الذي ادعى أنّه طبيب عندما سمع عند مرض شبيب فقال: سأقطر في عينيه وسيصرخ ثلاث صرخات وينام، فقتله بـ "سم ساعة"!

راوٍ فردي لا نعرفه يقول حكاية ما، تصبحُ لاحقا حكاية كل من نقلها فأضاف إليها أو حذف منها. تتظافر الأحداث التاريخية جوار الأحداث المتخيلة، لنسج عملٍ ظاهره الترفيه، ولكنه في مستوى أعمق يضمر: "أسلوب العيش والاعتقاد عبر ثنائية الواقع والمتخيل". تلك الحكايات التي "لا تُلقن ولكنها تختمر في صدور أصحابها".

من الجيد أن تكون لدينا مادة ثرية لتوظيفها لخدمة المزارات كما يحدث في العالم، ولكن علينا نحن أيضا أن نشعر بالارتباط العاطفي مع هذه الحكايات، فقد تفيد شاعرا وقاصا وروائيا وفنانا وقارئا عاديا سائحا في تأملاته.