الرواية الخليجية «7» .. صراط الرواية

05 مارس 2024
05 مارس 2024

تسير الروايةُ دوما على سراط خَطِر، حدّاه الواقعُ والتخييل من جهة، والمباح والمحظور من جهة ثانية، وقَدَر الروائيّ أن يعبر هذا الصراط، وأن يخرج منه سليما من أذى المحظور، موحيا بواقع وضاربا في التخييل بما يجعل الرواية مقروءة ومتقبَّلة القبول الحسن. الواقعُ حدٌّ قاتلٌ متى احترفه الروائيّ والتصق به والتزمه، والتخييل حدٌّ مُجنّح، لا يجب الإيغال فيه. تظلّ ملامح الإحالة إلى الواقع الذهني أو العينيّ مطلبا قرائيّا، إذ يجب على القارئ أن يجد نفسه، وألاّ يكون خارجا عن دائرة المسرود، عقليّا، فكريّا، أو ماديّا، فتكون بذلك كتابة الرواية متعةً من جهة، وتدبيرا من جهة ثانية، التدبير في إقامة الذات الكاتبة لحيل ضامنة لتلقّي الرواية، اختيارا لأحداث الرواية وبناء لشخصيّاتٍ لا تُفارق الواقع تمام المفارقة، ولا تلتصق به تمام الالتصاق، وفي توخّي الجرأة في التخلّص من المحظورات السائدة ولكن في الوقت نفسه دون تجنيح في استعمال التخييل الحرّ، الطليق، وإنّما يبقى الرقيب مهيمنا بشكل سافر حتّى في مراعاة أصول الكتابة اللغويّة والتعبيريّة، وتسليم الرواية إلى المراجعة اللّغويّة والتركيبيّة. الرقيب حاضرٌ بشكل ضامن لتواصلٍ ما مع المجتمع القارئ. ما هي الموانع والمحاذير في كتابة الرواية، ما هو المحبّذ والمرغوب والمُجاز؟ الروائيّ الخليجيّ ينوء تحت ثقلٍ شديد في اتّباع مسلك الإبداع، محاذير جزيرة العرب فاعلة ونافذة، تأسر أحيانا الكاتب، فإضافة إلى مثلث التابوهات المألوف، فإنّ موانع أخرى تنضاف وتنشدّ، أوّلها المانع القبليّ الاجتماعي، وهو في ظنّي أقوى الموانع، وفي الآن ذاته هو بئرٌ من الحكايات، وصندوقٌ مقفل يحتاج إلى تسريد وتروية. الموانع في كتابة الرواية عدد، تُكَبِّلُ الكاتب وتُطلقُ خياله في الآن ذاته، فالكتابةُ في الأصل هي لعب على المحاذير، هي تجوال «حذو بركان دزوف» -على قولة نيتشة- هي سيرٌ على الصراط، فالمُبَاح لا يحتاج إشارة ولا تكنيةً ولا تخييلا. سلطةُ المجتمع تُمثّل سيفا مانعا قاطعا، يحدّ من الدخول إلى كهوفٍ من حكايات القبائل، سلطة الدين المذهبي حدّ يدعو الحدّ، سلطة السياسة، مانعٌ يجمع بين الديني والمجتمعي، ومن وراء كلّ ذلك، روائيّ له رؤيةٌ للعالم من حوله، له حكايةٌ يريد أن يحكيها، بمنظوره للواقع وللتاريخ، في الظاهر هو ينفر كلّ منع، وفي العمق فإنّ المنع هو مقتضى إبداعي تخييليّ. عبده خال الذي يرقب المجتمع بعينِ المنغرس فيه، يلحظ تقلّباته، وتفاعله مع اليوميّ والسياسي والاجتماعي، ليبني من هامشٍ حكاية، ومن موقفٍ يمني في حرب الخليج حكاية، ومن شخصيّة المغادر قريته الداخل عالم المدينة الحديث حكاية، ليرى بعين الحاكي، الروائيّ، ما يُمكن أن تؤسّسه التغيّرات الحدثيّة في الواقع من بنيان لحكايات لا تنتهي، هي حكايات، أصلها في واقعٍ وضاربةٌ أغصانها في سماء التخييل والتمثيل، رجاء عالم وعالمها المليء بشخصيّات قريبة منها، وبتوطّن في المكان بما يستدعيه هذا التوطّن السرديّ من بوح بحكايات يختزنها المكان ويحفظ بقاياها، لا يغيب التاريخ عن الرواية في الخليج، لعلّة بسيطة، لأنّ المكان حاملٌ في ثناياه التاريخ، حاملٌ عددا لا يُحْصى من الحكايات التي تحتاج تخييلا لتقصيصها وترويتها، لإخراجها من السكون إلى الحركة، من الكمون إلى الوجود، من الخفاء إلى التجلّي، وخذ مثالا على ذلك ما ورد في رواية «طوق الحمامة» لرجاء عالم، «كما يؤكّد الشيخ مُزاحم الذي جاء مُلاحقا حَملة ابن سعود 1926 بعد الاتّفاق على تسليم الملك علي بن الحسين مدينة جدّة بعد حصار طويل واستسلام مكّة بلا حرب».

لقد خرج الأديب العربي في جزيرة العرب من القول المكرور المُعاد، من «هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ منْ مُتَرَدَّمِ/ أم هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بعدَ تَوَهُّمِ/ يَا دَارَ عَبْلةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمِي/ وَعِمِّي صَبَاحًا دَارَ عبْلةَ واسلَمِي» إلى مكانٍ ينطق بحكايات كتمها الشعر، أو هو أحال إليها دون نبش في خفاياها، تنطق جزيرة العرب، وهي في حاجة إلى مزيد إفصاحٍ وبوح. لقد أقصيت رُموزٌ في الرواية الخليجيّة، كان يُمكن أن يكون لها بعيد الأثر في ضبط مسار هذه الرواية، وأُبعدت عن المشهد الخليجيّ بعلّة تثوير الحكايات المكتومة، رُموز في الكتابة الروائيّة أُقصيت اجتماعيّا وحضاريّا، وهي تُستَرجَع اليوم، ويُجْتَهَد في إرجاعها إلى المشهد الخليجي، كما فعل -على سبيل المثال- سعد البازعي في مداخلة بعنوان «مدن التيه: عبد الرحمن منيف وسؤال الهويّة» في ندوة «الرواية الخليجيّة: السوسيولوجيا الموازية». لماذا إعادة طرح سؤال الهويّة بعمق في الرواية؟ في العادة يُطرح هذا السؤال عندما تكون الهويّة الفعليّة مهدّدة بزوال أو بتبديل أو بتحريف، لقد اقترنت الدراسات المتوجّهة إلى الرواية الخليجيّة بمبحث الهويّة، ولي أن أسأل عن علّة هذا الاقتران، مع وجود هويّة واحدة موحّدة لكُتّاب أقطار دول الخليج؟

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي