"الحياة في مكان آخر"!
أليست فكرة مرعبة أن يكون الكون الشاسع والمُتنامي فارغا معظمه؟ أليس مرعبا ذلك الليل الأبدي الذي يفصل بين المجرات؟ ذلك الليل المُقفر وبالغ الغرابة والغموض؟ ألا يعبر المخيلة ذلك السؤال: لماذا نكون نحن كائنات الأرض المنسية على زاوية الكون، الأكثر حظا بوجود أشكال من الحياة، فيما لو افترضنا عدم وجودها في مكان آخر؟
في طفولة بعيدة، كنا نقفُ في حقولنا، مغمضين أعيننا، ومادين أيادينا، على أمل أن تُقلنا السفن الفضائية إلى عوالم مخترعة، مُتأثرين بقصص الخيال العلمي والأفلام التي كانت توقظ حواسنا تجاه أسئلة جامحة يُحركها فضولنا الأبدي: "ماذا لو كانت هنالك حياة أخرى خارج الأرض؟"
لقد عبّر عالم الفلك الأمريكي كارل ساغان بوضوح عن هذه الأسئلة في كتابه المهم "الكون"، وقد اكتسب هذا الكتاب أهميته لأنّ ساغان "ينظر بعين إلى النجوم وبأخرى إلى التاريخ، وبعين العقل إلى الطبيعة الإنسانية". تحدث ساغان عن خيالنا المقيد بالتصورات المحدودة عن كائنات الكواكب الأخرى.. "جلد أخضر، آذان طويلة، سياط وهوائيات مُستدقة"، كما تناول رواية الخيال العلمي التي كتبها هـ. ج. ويلز "حرب العوالم"، التي احتفظت بقوتها حتى اليوم.
ويرى ساغان أن بعض العلماء لم يقاوموا افتتانهم بفكرة وجود "الحياة في مكان آخر" - وهو بالمناسبة عنوان إحدى روايات كونديرا المهمة، وإن كانت فكرتها تتضمن بُعدا شاعريا حول ضيق العالم - وعودة لقصّة العلماء يذكر ساغان "برسيفال لويل" عالم الفلك، الذي ظل يسجل في دفاتر ملاحظاته ما ظن أنّه رآه حقا، من قبيل شبكة من الحفر تلتف حول كوكب المريخ، تلك "الأقنية" التي تمر عبرها مياه الجليد القطبي إلى السكان العطشى. ولكن عندما طُلب من "راسل والاس" أن يُراجع نتائج كتابات لويل، قال: "الأقنية من صنع المجانين أكثر منها من صنع كائنات ذكية"، لكن خرافة "لويل" لاقت قبولا شعبيا واسعا!
أصبحت الأرض مكتشفة الآن، بعد أن ذهب مغامرون وبحارة إلى كشف أسرار بحارها وقاراتها، ولذا بات العالم يفكر خارج الأرض، فإن كنا يوما مبهورين بأسلافنا الماهرين في رسم الخرائط، فثمّة الآن عقول أكثر نضجا ترسم خرائط الكون ومجراته بدقة متناهية.
لقد تطلبت الاكتشافات التي نعيشها الآن، التي سيعيشها أحفادنا كما يرى ساغان، الكثير من الشك والخيال، فمعرفتنا بالكون الذي نسبح فيه كذرة غبار، يعني معرفتنا لذواتنا.
ليس على أبداننا إلا أن تقشعر لمجرد وعينا أنّ الطحالب المجهرية ذات اللون الأزرق المخضر، ظلت تحتكر الأرض لأربعة مليارات من السنين، ثم تحطمت هذه السيطرة وبدأت أشكال جديدة من الحياة، "فالخلية الحية هي نظام معقد كتعقيد عالم المجرات والنجوم".
يشير ساغان إلى أنه: لم يكن لدينا قبل ١٠ آلاف سنة بقر داجن ولا عرانيس ذرة ولا كلاب صيد، فاختيرت سلالة الكلاب المطيعة والحيوانات اللبونة، وتدخل الإنسان في خواص الذرة، وإذا كنا نستطيع قياس أثر الانتقاء الصناعي، فماذا يكون قد فعل الانتقاء الطبيعي عبر مليارات السنين؟
عرف أسلافنا القدامى أن عمر العالم قديم، ولقد بذلوا قصارى جهدهم ليفكوا لغزه، ونحن نعي الآن بلغة العلم أن الكون أقدم بكثير مما ظنوا، "نعيش على ذرة من الغبار، تدور حول نجم رتيب في أبعد زاوية من مجرة مظلمة، وعمر كوننا محسوب منذ الانفجار الكبير ويقدر بنحو عشرين مليار سنة"، ومن المقدر أن نكون نحن الكائنات الأكثر ذكاء إلى أن نجد كائنات أخرى.
لكن المعرفة لم تكن تسير بشكل خطي، فثمّة ما ضاع وكان سيوفر علينا الكثير من الجهد. "تصور أي خفايا عن ماضينا كان يمكن كشف النقاب عنها بواسطة بطاقة استعارة من مكتبة الإسكندرية"، والتي تأسست أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، لكنها دمرت، فخسرنا كتاب اريسطاركوس مثلا، فاحتجنا ألفي سنة لنعيد كتابة استنتاجاته القديمة عن الكون، وكتاب آخر لكاهن بابلي اسمه بيروسوس يعالج بدء الخليقة حتى فترة الطوفان، أي ما يعادل ٤٣٢ ألف سنة، فأي خسارة فادحة؟!
يحثنا ساغان على ضرورة الإصغاء لترنيمة الكون، ضرورة أن تتضاءل رغبتنا في إفناء الآخر في الحروب والتعصب العرقي، يحثنا على ترويض الأدمغة الأكثر بدائية فينا، وذلك عندما ندرك أننا لا نعدو أن نكون "نقطة ضوء بين حصون النجوم وقلاعها".
