الحنين إلى ما هو غير مصطنع
07 ديسمبر 2025
07 ديسمبر 2025
بينما كان الغروب يشقُّ السماء بحمرته القانية، كان الرمل الذهبي البارد ينداحُ تحت أقدامنا كالريش في خَبّة القعدان التي صعدنا إليها لأول مرّة. هناك حيث تبدت لنا الكثافة البشرية التي لا يمكن لعين أن تصدّق واقعيتها. سيارات ودراجات تندحقُ من كل حدب وصوب، مُخترقة سحب الغبار، تتسابقُ على تلك القمم العالية، دون أن يكبح جماحها شيء. ولا أدري حقا إن كان ما يدفعُ البشر إلى ذلك هو ما ألمح إليه جان جاك روسو: «الحنين إلى ما هو غير مُصطنَع»!
لكن وحيثُ تحتفي الطبيعة بفطرتها البرية، كانت الكثبان الرملية مُشوَّهَة بكميات هائلة من المخلّفات التي تركها الزوّار الذين سبقونا. ولستُ ألقي اللوم على الناس وحسب؛ فحين كنّا هناك اكتشفنا أننا نحن أيضًا لا نملكُ خيارًا عمليًا للتخلّص من نفاياتنا: لا سلال مُخصّصة، ولا محطات قريبة. وجدنا أنفسنا مضطرّين إلى حمل ما لدينا من نفايات حتى أوّل محطة على الطريق الرئيسي!
وكنتُ أتساءل: هل ندرة الخدمات في هذه المواقع الطبيعية هو خيارٌ نابعٌ من فلسفة واعية تريد إبقاء المكان على سجيته، أم أنّها نتاج قصور تُرك ليتمادى على هذا النحو المُقلق!
حاولتُ البحث مرارا عن السبل التي حافظت بها الدول العالمية والعربية على طبيعتها، وعن الحدود التي ينبغي ليد الإنسان أن تمتد إليها أو تتوقف عندها. فوجدتُ أنّ معظمها اتجه إلى إنشاء محطات خدمات مُتنقّلة لدورات المياه وسلال نفايات صديقة للبيئة دون اللجوء لأبنية ثابتة تُشوّه الفضاء العام، كما جرى تحديد المسارات فيها بدقة، والاعتماد على أكشاك صغيرة للمشروبات وعدّة التخييم وأساليب تقنية حديثة لتزويد السياح بالمعلومات والخرائط. أي ما يُعرف بالتدخّل الخفيف أو الناعم، عبر بُنى أساسية محدودة لا تبتلع الطبيعة بوحشية الإسمنت.
مضينا إلى سحر المكان دون طريق مُعبد يُسهل علينا الدخول والخروج، دون لافتات عصرية تدلنا عليه، ودون أن يُؤلف أحدهم قصّة الكثبان، ناهيك عن توفير الحد الأدنى من أدوات السلامة لتفادي حدوث حوادث كارثية!
ورغم أنّ التوجه البيئي الجديد لا يذهبُ إلى خيار ترويض الطبيعة بل تركها حرّة من أي عِقال، لكن أيضا من غير أن تُترك وحيدة في مواجهة سوء الاستخدام البشري، فبعض الخدمات الأساسية ليست رفاهية، بل شرط جوهري لاستمرار العلاقة الآمنة بين البشر والمكان.
ليست مجرد كثبان، يمكنها أن تغدو موردا سياحيا، يمنحُ قوة جذب لهواة التزلج على الرمال، التخييم لمراقبة النجوم وتصوير الشروق والغروب، وحتى سياحة المغامرات. يمكنها أن تغدو مصدر دخل لأهالي المنطقة دون تنكر للطبيعة.
في ذلك العلو، لم يُتح لعائلتي إلا حيزا صغيرا، فقد تشاطرت المساحة عوائل كثيرة، وآنذاك شغلني السؤال: هل لدى الطبيعة قدرة تحمل لا محدودة لكل هذا الإقبال غير المشروط، وهل يضر -حضورنا العشوائي- بالنظام البيئي حتى وإن ذهبنا بنوايا التأمل والاسترخاء الحر!
طُمرت عجلات سيارتنا بالرمل في تلك الليلة، واجهتنا صعوبة في الصعود والهبوط، إلا أنّ أعين أبناء العائلة اتقدت بحس المغامرة، منذ أن أشعلوا النار مُتذكرين أسلافهم القدماء ويقظة الحكايات والدفء، ومنذ أن استلقوا فوق برودة الرمل وتحت شعاع قمر مكتمل يزاحمه الغيم. شيء يذكّرنا بما ذهب إليه جان جاك روسو: أفضل تربية هي تلك التي تمنح الطفل احتكاكًا مباشرًا مع الطبيعة، تُعلّمه الحرية وتوجّهه نحو الأصالة لا الاصطناع. لقد رأى روسو في الطبيعة شفاءً من جراح المدينة، وقدرةً على إعادة الإنسان إلى بساطته الأولى، مانحةً إياه فرصة رؤية ذاته بوضوح.
لطالما ظننت أنّ الراغبين بفسحة الانعتاق مما هو مدني إسمنتي هم «قلّة». لكن الجحافل البشرية جعلتني أرى ميلا جماعيا للانسلاخ.. ولا أعرف على وجه الدقة إن كان محرضه «الترندات» التي تتصدر منصات التواصل الاجتماعي فتحرض العدوى، أم هو حنين أصيل لكل ما هو جوهري ويُدرك بالحدس والتأمّل، هناك حيثُ تكشفُ الطبيعة ما كانت عليه الحياة قبل التشوّهات التي أحدثها الإنسان، فتعيدُ إليه حريته والطمأنينة المفقودة.
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»
