التاريخ مخزن الحكايا

20 فبراير 2024
20 فبراير 2024

صلة الرواية بالتاريخ هي صلة وجود وهويّة، وهي صلة إشكاليّة مثلت مبحثا لازما لقضايا الرواية النظريّة والاختباريّة. وقد انصرف عدد مهمّ من الدارسين والمفكّرين إلى إثارة هذه الصلة، والخروج بنتائج تضبط الحدود الفاصلة الواصلة بين نظامٍ في ضبْط الوقائع زمنيّا وفعلٍ في التخييل لا ضابط له سوى الإمكان السردي، ولعلّي أشير في هذا المقام إلى الجهود الجليلة التي فتّحت أبوابا في البحث، أهمّها ما دخل فيه بول ريكور في كتابه الذي ما زال يشكّل سبيل الهداية في البحث التاريخي والسردي، «الزمن والقصص»، إضافة إلى مقاربات أخرى لا تقلّ أهميّة عمّا اجتباه ريكور، ويمكن أن أقتصر على مقاربة جورج لوكاتش في كتابه «الرواية التاريخيّة»، الذي يصف الرواية التي تشتغل على التاريخ بأنّها «رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق بالذات»، فالمهم بالنسبة إليه في توظيف التاريخ وتحبيكه «ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة، بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث، وما يهمّ هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانيّة التي أدّت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرّفوا كما فعلوا ذلك تماما في الواقع التاريخي».

ولست في هذه المقالة بصدد رصْد ما كان من توظيف الرواية للتاريخ، وفق معهود الدراسات، بل أنا بصدد فتح أبواب أشكل عليّ إغلاقها أو سوء تخييلها، صلة الرواية بالتاريخي في أدب الخليج هي الصلة الأوهن والأضعف، في حين تعلو الروايات ذات الصلة بتخييل الواقع، ومن حقّي أن أطرح إشكال السؤال عن علّة هذا العقم، في ملاحظة اختلال توازن، بين تاريخ مليء بالحوادث والوقائع والأساطير وسرْدٍ يتركّز أغلبه في معالجة الواقع الراهن، فإن لجأ إلى التاريخ مخاتلة وظلا نأى عن تاريخه الوسيع ولجأ إلى تاريخ أبعد، كما فعل محمد حسن علوان -على سبيل المثال- في رواية «موت صغير».

تاريخ وسيعٌ لمنطقة شبه جزيرة العرب ما زال في حاجة إلى ساردٍ قادرٍ على معرفة التاريخ وإعادة تمثّله وتمثيله، منذ ما قبل الإسلام من تاريخ مكتومٍ مختلف فيه، إلى حدّ التاريخ المعاصر الشائك. ثروةٌ هائلةٌ من الموادّ الحدثيّة التي يمكن لحكّائي المنطقة أن يصوغوها حكايات وروايات متخيّلة، عوالم ثرّة ثريّة غَالَب فيها الأدب الشعبيّ الأدبَ العالمَي فغَلَبه، لم ينتظر القاصّ الشعبيّ نظريّات الرواية والتاريخ، ليحوّل أحداث التاريخ إلى حكايات، أو بلغتنا نحن الأكاديميين، لتحويل المرجع إلى تخييل، بل استدعى «الملكة الزبّاء» و«قصير» و«الأبرش» و«عنترة» و«أبناء ماء السماء»، وما بلغهم من تاريخ العرب قبل الإسلام لامتصاص هذه الموادّ الحكائيّة المكوّنة للثقافة العرقيّة للخليجي، استدعى أيضا خلاصةَ التاريخ الوسيط، وما أنتج التاريخ الحديث من أبطالٍ ورموزٍ، وأعاد صياغتها في قصص شعبيّ توزّعت معانيه بين أفواه الرجال في مجالسهم الخاصّة من حكايات تمنَع على الأطفال، وبين النساء في مجالسهنّ الخاصّة، وبين الجدّات في هدهدة الأحفاد أو في تقديم الوعظ والإرشاد واختصار حكَم الحياة، فلم تَمت «زرقاء اليمامة»، ولم تندثر حكايات «أميّة بن أبي الصلت»، وعاشت مغامرات الصعاليك، وحروب عرب الجاهليّة وعاداتهم، تحوّلت قضيّة وأد البنات ووراثة الإماء وقيَم الجوار ونصرة المظلوم إلى قصص وروايات، وانتقت الذاكرة الشعبيّة من قصص الأنبياء ما رأته جديرا بالتوسيع والتوظيف، فحاكته وحَكَتْه، وتفاعلت مع ما حدث في التاريخ الإسلاميّ من فتوحات ومن نزاعات وخلافات، كلّها تتحوّل بفعل الزمن إلى معانٍ تحْكَى بتحويلٍ أو تبديلٍ للشخصيّات ومحافَظة على النوى الحدثيّة التي تتحوّل وتتوزّع حسب المقام الروائيّ.

ما زال أمام الروائيّ الخليجيّ مَنْجم من الحكايات مخزون في رفوف الكتب ومبثوث في الروايات الشفوية، يحتاج إلى روائيّ قديرٍ يقرأ التاريخ بعمق، ويحسن الإنصات إلى وقْع المجتمع، ويمتلك مخيّلةً وسيعة، لحياكةٍ تمتصّ التاريخ دون إسفافٍ ولا نَقْلٍ. صحيحٌ أنّ أعمالا عديدة تفاعلت مع التاريخ وحبَّكته أو قصَّصَته أو خيّلته، وهي أعمالٌ في قسم نَزْرٍ منها أحسنت هذا «التواشج» و«التنافذ» و«المناورة» و«الاستظلال» و«التحويل» بين الحاضر والتاريخ، بين التخييلي والمرجعي، وأقامت جسرا لروايةٍ قادرة على «تحويل» التاريخ مادّة من موادّ فعلٍ تخييليّ أشمل وأوسع، وأضرب مثالين على ذلك هامّين، ما استطاعتْه جوخة الحارثي في رواية «نارنجة» من تحويلٍ للتاريخ الحديث إلى تفاصيل خادمة لحكايتها الأصل، فهي لا تستظلّ بالتاريخ ولا تناوره، بل تحدث تواشجا معه داخلا في سياقٍ يوميّ، وفي تفْصيلٍ لمسارٍ حَدَثيّ يقتضي استدعاء عناصر موَظّفة من التاريخ، وقد كانت شخصيّة «بنت عامر» هي الشخصيّة التكأة التي استندت عليها جوخة الحارثي عينًا على التاريخ الحديث، وعاملا متفاعلا مع واقعه التاريخيّ في ما تقتنيه، وفي ما تخبّئه، وفي ما تهديه وما تشتريه، في الشوارع التي تمرّ بها والآلات التي تستعملها، تنقل حياةً صارت حكايات، حياة قد تغيب في تأريخها عن التاريخ الرسميّ، ولكنّ الذاكرة الشعبيّة لها القدرة على تسجيلها وإحيائها، وكذا التوظيف الروائيّ القادر على بعْث تلك الحياة المنقضية التي قد تدخل التاريخ وقد تفارقه، فقدرة جوخة الحارثيّ الروائيّة أنّها الأقدر على تكثيف تاريخٍ وسيعٍ في جملةٍ سرديّة أو إشارة حدثيّة أو شخصيّة عارضة لا تأخذ من التبئير ما يتجاوز وجودَها العرضي.

محمّد اليحيائي أيضا في عمليه الروائيين، يختار التفاعل مع التاريخ واتّخاذه إطارا وجبّة وظلاّ، الفارق بينه وما تعْمله جوخة أنّ التاريخ في روايتيه مقصد وأصل، والتخييل مخاتلة، أمّا التاريخ معها فهو جزء أو عنصرٌ من عناصر الرواية، هو تفصيلٌ من تفاصيل متعدّدة، لا يعلو صوته على صوت التخييل الحكائيّ. تجربة محمّد اليحيائي في «حوض الشهوات» و«الحرب» جديرة بالنظر من مدخل صلة التخييل بالمرجعيّ، وقدرة الروائي على امتصاص التاريخ وتغليب التخييل، ذلك أنّ اليحيائي يصدر عن مرجعيّة جامعة بين الوعي بالواقع والدراية بالتاريخ والقدرة على التخييل القصصيّ، ولكن إلى أيّ حدّ وفّق في إحداث فعل تخييلي ناتج عن هذا الجمع بين الماضي والمرجع والحاضر؟ هذا أمرٌ يحتاج إلى حديث وسيع لنا عودة إليه. تفاعلٌ واضحٌ في عدد من الأعمال الروائيّة في شبه الجزيرة العربيّة مع التاريخ الحديث والمعاصر، ومع الواقع اليوميّ، في حين هنالك إعراضٌ جديرٌ بالتساؤل عن التاريخ المشترك أو القطري المليء بممكن السرد، فهل هذا راجعٌ إلى «القداسة» أو إلى «تجنّب المختلف»؟ يذهب شقٌّ من السرديين إلى أنّنا نشهد في زماننا نهاية الرواية بعد أن بلغت ذروتها، وأنا أقول إنّ الرواية قد تنتهي شكلا ولكن فعل الحكاية لا ينتهي، فهو مكوّن إنسانيّ، ومحدّد للوجود البشري، فالإنسان هو مجموع حكايات، وأمام حكّائي شبه الجزيرة العربيّة مادّة من الحكايات مختومة في حاجة إلى عقل سردي يحوّلها أدبا عالما، يبْطل نظريّة موت الرواية ونشْأة السيرة الذاتية بديلا، فهل نشهد وعيا حكائيّا بالتاريخ، يثير الكامن ويبعث الراكد، ويتخيّر أساليب تحْدث فارقا في تاريخ الرواية، محلّيّا وكونيّا؟