«إنته أخونا العود وما ساعدتنا»

20 يوليو 2025
20 يوليو 2025

أحقَّاً، «في البدء كانت الكلمة» كما يُقال في «سِفر التكوين»؟

تقريباً، بل باليقين الشَّخصي المُر، صرت أشك كثيراً في صحَّة ذلك. وحتى لو كانت المقولة صحيحة (لاعتبارات تخص السَّماء، والأنبياء، بأكثر من قدرتنا على الفهم، ولاعتبارات تتعلق بالقصائد، والرِّوايات، والمسرحيَّات، واللوحات، والأفلام، والمنحوتات، وما إلى ذلك مما أنتجه الشَّقاء على الأرض) فإني لا أرغب في قبول مقولة «في البدء كانت الكلمة» بالكامل (علميَّاً، هي ليست صحيحة على الإطلاق، لكن العِلم يؤدي إلى السُّقم والهلاك أيضاً. أتذكر دعابة جادَّة من أستاذي وصديقي توم ويستن: «ما كان كارل ماركس ليوافق على هذه المقولة أبداً»)!

أحترم عبارة «في البدء كانت الكلمة» من قريب ومن بعيد، بسبب نبرتها الشِّعرية، وأحاول أن أفهم وجودي المادي والفيزيقي بعيداً عن «الكلمة» على هذا الكوكب الهش، والحَرِج، والبائس، والمليء بالآليات وأدوات ووسائل التَّعذيب، والجحود، والنُّكران. أصير، بلا رغبة مني، بل من باب تحصيل الحاصل والإقرار بالذَّاكرة، حليفاً للعذاب الذي صار بعد إطلاق «الكلمة». وفي أية حال، فإن محاججتي المبدئية (إن كان في وسعي أن أدعوها كذلك) ليست ثيولوجيَّة، ولا فلسفيَّة، بل إنسانيَّة، وأخلاقيَّة، وشخصيَّة.

في الشأن نفسه، لذلك، بل في أعمق أعماقه وضحاياه، لم تكن السَّماء بعيدة عن الأرض ولا عن الحكاية. لكن حدث أن أشرقت شمس غريبة على بحر مجز الصغرى (أتذكر ذلك جيِّداً). وحدث أيضاً أن غربت الشمس خلف مزارع مجز الصغرى (أتذكر ذلك جيداً أيضاً). وحدث أيضاً أني كنت قاب موجتين أو أدنى من الموت، لكن تعُّوب الكحالي رفعني إلى الرَّب والضَّراعة. وحدث أيضاً أنه كان لي أب، وأم، وإخوة أشقاء، وأخوات شقيقات، قبل ذلك (وفي أثنائه).

وقبل ذلك -- بين الشُّروق على البحر، والغروب من جهة المزارع -- حدث أن جئتُ، من غير إرادة، بهذا الوجه العصي، والذَّاكرة الحامضة، والغضب العارم. جئت أنا الذي لا يُكَلِّمهم لدى الهزيع الأخير، ولا عند البرازخ والسَّواقي التي جرت قبل «الانفجار العظيم»، ولا أفتح صناديق الهدايا من الأموات، ولا الثِّياب العسكريَّة من الذِّكريات، ولا أشحذ السَّاطور، ولا أستعمله، في فيلم «القيامة الآن» لفرانسس فورد كوبولا. لم يكن أمامي أي شيء سوى أُمِّي (ووالدتهم)، وليس خلفي أي شيء غير والدتي (وأمِّهم)، سوى أن أدرك، بعد فوات الأوان، أنني الثَّور في الحكاية كلها، بعد انتهاء الفيلم، والحلم، في سقم الحياة، وفي قيام مجد «العائلة المعروفة»، وفي اندثار خطوات عبدالله (الصغير)، ومحفوظة، ولطيفة. لقد أصبحتُ الشاهد على الطَّلل أخيراً، وصار الجميع شهوداً على الطَّريدة.

كانت النَّجمة بعيدة، أبعدَ من مغازلاتها، وأكثر من إيقاظها، والذَّكريات في مقام الطوبى، أو الخبز، أو النسيان. أما الأم فلا تحسن شيئاً سوى الرَّغيف، والتَّشكي من ظلم الحياة، والنَّكالات، وتضليل النُّصوص والكواكب، وتدليل من جاؤوا بعدي (من باب التقوى والورع، وأشياء طاهرة أخرى).

لكن، كل ما وَرَد يبقى من السُّقم اليومي المألوف في الحياة. بيد أنه، جاء أيضاً، والماضي من الزَّمان يسنده. اتّخذ مقعده محميَّاً، ومُعزَّزاً، ومحاطاً بإخوته وأبيه في المحاكمة ضمن تذكار عابر من محاكمة «كافكا»، خلف صدر طاولة الاتِّهام التي ذكَّرتني، أيضاً، بإحدى جلسات التحقيق الطويلة مع عدم «السَّماح» بالتدخين، بينما لم يكن أمامي سوى أن أطلب من الأرض أن تنشق. وقد حدث ذلك بصورة مبالغ في أبويِّتها (بالوراثة)، وأريحيتها المصطنعة (بالفطرة)، وثقتها المفرطة بنفسها (من جينات البطريرك مباشرة)، بحيث بدا وكأنه أحد ملوك بلاد فارس، أو واحد من أباطرة روما، أو عميد اختصاصيي مرض الروماتزم وعِلم المناعة في أرقى مستشفيات المرِّيخ. لم أرَه شامتاً ومتغطرساً من قبل بتلك الصورة. لقد كان يردِّد عبارات هي، في الحقيقة، بعض أقوال أبيه. لكن كان عليه أن يُطلِقَ، فوق كل ذلك، العذاب الكبير بقوله الجازم، وبالحرف الواحد: «إنته أٌخونا العْود وما ساعدتنا»، مضيفاً، بعد قليل، بإنجليزيَّة لا غبار عليها (وكان قد صقلها بالدِّراسة في «معهد كيمبريدج للإنجليزيَّة المتقدِّمة» التي كان «الأخ العود» قد دفع رسومها): “We won’t support you!” («سوف لن نساعدك»)! يا الله، من سيساعد من؟ وعلى ماذا؟ ولماذا قيلت العبارة بالإنجليزيَّة في حضرة الأب الذي لا يفقه سوى لغة الحيض والنِّفاس؟

هنا، لا بد للأرض أن تتوقف قليلاً، وعلى الكواكب أن تتأمل، بينما لا ينبغي من أحد أن يسعى إلى التقيؤ. كيف للعَين، إذ الوقتُ فقءٌ مستميت، أن تهاجِر إلى طفولتها الآثمة في ذرِّ الرَّماد؟ وأنّى للبصيرة أن تهاجَر؟ كيف لدقَّات الموج في بحر مجز الصُّغرى أن تكون أسرع في تظاهرها أنها قرع طبول متوحشة صداها قادم من آخر غابة في العالم؟ كيف للتَّظاهر أن يفلح في جعل الصَّعقات لا تحدث إلا في جلسات تطبيب مرض الاكتئاب المزمن الحاد بالصَّدمة الكهربائيَّة؟ كيف لكل شيء أن يكون هباء، وكيف لي أن أنثر الهباء على الهباء؟ أين لي بمن أب يحميني من الذَّاكرة؟ وكيف هو موضعي (ومواضعهم) في السَّديم؟

لكن، ومنذ «إنته أُخونا العْود وما ساعدتنا» صار لا بد من إعادة التَّعرف الكالح (والغربان قتيلة) في خيال من عدم وجودهم (وفي هذا حليب حامض وخبز متعفن). صار التَّعرف إلى اليُتْمِ ممكناً في آخر الفداحة.

منذ تلك النُّطفة البائسة، الصُّدفة المنويَّة الباهظة التي جعلتك واحداً منهم، ليس هناك إلا الخوف من الذكريات والتَّضحيات، وإجراء مؤاخاة شقيقة بين الحوافر على الكَبِد والطحال، ومكابدة الأم، والعمل في المنجم العسكري من أجل تجفيف المِلح على جثمان الأب. ليس هناك إلا حسرة أكبر من أول بيت تشرق عليه الشَّمس على بعد بضعة كائنات متحرِّكة وحكايات من البحر، والبَّر، والأبديَّة.

قبل «إنته أُخُونا العْود وما ساعدتنا» لم يكن العَرَق يدرك المصائر، وكانت القرارات تُتَّخذ من دون الثقة بالليل، أو النهار، أو الكتابة، أو حليب الأم الهالكة، أو اليُتم المُطلق، ومن دون المقايضات والتّباينات في أنه، لحسن الحظ (تقريباً): «إِنته أُخونا العود وما ساعدتنا».

بعد «إنته أخونا العْود وما ساعدتنا» هذه، صار يدرك جيداً أنه لم «يساعدهم». وعلى هذا، فإنه لا يطلب العذر منهم، ولا منكم، ولا من نفسه.

وفي الوقت ذاته، حقاً، في اختلاط ضمائر القول وصدوره، لقد تأخر الوقت كثيراً على كل شيء، بما في ذلك مساعدة نفسه، قبل وبعد أن «أساعدكم». ستظل تلك العبارة في حياته، وموته، وحفرته، وصمته، وشعوره الدَّائم بالتَّقصير، وعجزه عن التعليق أو الرَّد، ماثلة بأقل إمكانيَّة لها على المِثال الذي خسره، للأسف الشديد.

حقَّاً: «إنته أخونا العود وما ساعدتنا».

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني