أنساغ: عربة تتهادى بالذكريات: «الأموات» بين قلم جيمس جويس وكاميرا جون هيوستن «8 من 9»
إن التَّأويل السِّينمائي الذي ذكرته في الحلقة السابقة يذكِّرنا بموقف فِلِّيني المتعَنِّت إزاء الاقتباس السِّينمائي (كما نوقش سابقا)، وخاصَّة فيما يتعلق برفضه «التَّأويل السِّينمائي» لأحداث كانت قد صُوِّرت في الأدب. ومعالجة هيوستن التَّأويليَّة لتذكُّر الخالة كيت لباركِنسُن تقدِّم دليلا داحضا لدعوى فِلِّيني؛ ذلك أن هذه المعالجة إنما تُنعش النصَّ ضمن المعطيات الثيماتيَّة، وهي ترسم خطوطا متوازية وتبني أرضيَّة صلبة للذروة القادمة.
الَّلقطات التأسيسيَّة
تستحق اللَّقطات التأسيسيَّة (establishing shots) في «الأموات»، وجميعها يظهر بعد انتهاء ظهور «التَّترات» بما في ذلك عنوان الفيلم، اهتماما خاصّا، يبدأ الفيلم بلقطة ليليَّة متوسطة وثابتة بمستوى النَّظر (medium static eye-level) لبيت الآنستين موركَن بينما الثَّلج يسقط على الطَّريق أمام البيت. وقد كان الوقتُ بدايةَ فصل الشِّتاء عندما مات مايكل فيوري كما ستنبئنا غريتا في نهاية الفيلم. وإضافة إلى الثَّلج المتساقط الذي نراه في اللَّقطات التأسيسيَّة للفيلم فإننا نرى كذلك أشباحا لأناس يرقصون عبر زجاج النَّوافذ المضاءة، وتدخل الكادر الثَّابت عربة يجرُّها حصان من اليمين إلى اليسار قبل أن تقطع مساحة الطريق المستلقية أمام المبنى شبحيِّ الإضاءة مغادرة الكادر من غير أن تتوقَّف، في الوقت الذي لا نزال نسمع فيه حوافر الحصان الذي يجرُّها من خارج الشاشة مذكَّرة إيَّانا، من الناحية الجماليَّة، بمقولة روبير بريسون Robert Bresson: «عندما يستطيع صوت أن يحلَّ محل صورة، اِقطَع الصُّورة أو حَيِّدها. تتَّجه الأذن إلى الدَّاخلي أكثر، وتتَّجه العين إلى الخارجي» (39).
وبعد مغادرة العربة، ومن غير إنهاء الصَّدى الصَّوتي للحصان، تدخل الكادر من اليسار إلى اليمين عربتان يجرَّهما حصانان تحضران بعض الضُّيوف إلى الحفلة، وتتوقفان أمام البيت. هاتان اللقطتان لا مقابل لهما في نصِّ جويس (الذي تبدأ أحداثه داخل البيت)، ولكنهما أضيفتا إلى الفيلم.
بدخول تلك العربة الأولى إلى الكادر من جهة معيَّنة، ومغادرتها إياه، يتكوَّن إحساس بشيء ما يصل إلى مشهدٍ ما من دون أن يلبث بل يمضي، ثم بدخول عربتين أخريين إلى الكادر من جهة معاكسة يتكون إحساس بعودة ذلك الشيء إلى ذات المشهد. تأتي العربات من «لا مكان»، من خارج الشاشة، وتغادره مختفية إلى «لا مكان»، إلى عتمة ما هو خارج الشاشة. ومع هذا فإن ذلك «اللا مكان» غير المرئي فضاء من داخل مادة الأحداث/ داياجيتي (diegetic)؛ لأننا نعلم أنه الطريق. نعم، فهو ذات الطريق الثلجي المعتم -- حرفيّا ومجازا -- الذي سيسلكه غابرييل وغريتا في عودتهما المُثْقَلَة بالأسى والذِّكريات إلى الفندق في نهايات الفيلم.
ليس في وسعي، إذن، إلا أن «أرى» في تينك اللَّقطتين التأسيسيَّتين إلماحا بصريّا بمايكل فيوري وشبحه الذي يعود من الذاكرة ليأخذها: إنها حقّا إلماحة «تأسيسيَّة» بكل المعاني الممكنة؛ فمثل العربة الأولى التي تدخل الكادر ولا تلبث أن تختفي دون توقف فقد دخل فيوري إلى حياة غريتا، لكن الموت جعله يغادر المشهد كلَّه بسرعة كما فعلت العربة. ولكن كان له، في أيَّة حال، أن يعود في تلك الحياة من دون إرادة غريتا (ومن دون إرادته ومعرفته من باب أولى). ومثل العربة فإنه سيتوقَّف هذه المرة. ولذلك فعلى الرَّغم من أن عنوان الفيلم (مثل سلفه الأدبي) هو «الأموات» فإنه، في الحقيقة، فيلم عن «عودة الأموات» أيضا.
يحدث بعد ذلك قَطْعٌ حيث نرى من لقطة داخليَّة ثابتة الخالتين كيت وجوليا واقفتين على السُّلم المؤدي من الدور الأول إلى الثاني. ونرى كذلك لِلِي، الخادمة التي يحيل اسمها إلى زهرة الحِداد والموت والأسى في الثَّقافة الغربيَّة (من حيث أنها الزهرة التي تُقَدَّم باقاتها في تشييع الجنازات وزيارات التَّعزية والمواساة)، وهي تحمل صينيَّة (ومن المهم هنا ملاحظة أن لِلِي هي الشَّخص الذي نربط فيه مشاهدتنا الأولى، ومشاهدتنا الأخيرة، في البيت). تدخل لِلي إلى مقدِّمة الكادر، وتصعد السُّلَّم، قبل أن تختفي في غرفة بالدور الثاني. غير أن قطعا تاليا يعيد المُشاهد إلى خارج البيت في الوقت الذي تغادر فيه العربتان الكادر في نفس الاتجاه الذي أتت منه العربة الأولى. نعود بعد ذلك إلى داخل البيت، وتحديدا إلى الخالتين كيت وجوليا وهما تقفان على السُّلَّم في نفس الزَّاوية المنخفضة الثَّابتة (static low angle). إن التَّركيب المشهدي (mise-en-scene) يبوح، لذلك، بأن الظُّهور الأول للقطة الزَّاوية المنخفضة التي تُري كيت وجوليا، إنما تعكس وجهة نظر (POV) لِلِي البصريَّة. ولكن، إذ تغادر جوليا الكادر، فإن من المستحيل منطقيّا تأويل بقاء لقطة الزَّاوية المنخفضة بأنه يعبِّر عن وجهة نظر لِلي، خاصة بالنظر إلى حقيقة أن المنظور البصري هو نفسه ذلك الذي يُري لِلي وهي تهبط على درجات السُّلَّم لتفتح، هذه المرة، الباب للضُّيوف. ولهذا فإن من المنطقي أكثر التفكير في تلك اللقطة على أنها تمثل وجهة نظر الراوي. لكن كيف يمكن لوجهة نظر ذاتيَّة أن تكون جزءا من وجهة النَّظر الموضوعيَّة للكاميرا السَّاردة المنوطة بالراوي؟
أعتقد أنه للإجابة عن هذا السؤال علينا العودة إلى الفقرة الاستهلاليَّة لعمل جويس الذي نحن بصدده وبصدد النقاش حول أفْلَمَتِه: «كانت لِلِي... تهرب من خطواتها بأتمِّ معنى الكلمة، فما إن تُرافق سيِّدا واحدا إلى مقصورة المؤن الواقعة خلف المكتب في الطابق الأرضي، وتساعده على خلع معطفه حتى يرن جرس باب الرّدهة بحدَّة مرة أخرى، فتضطر إلى الهرولة على امتداد الممر الخالي لتُدْخِل ضيفا آخر» (40).
تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:
(39): روبير بريسون، ملاحظات في السينماتوغرافيا، ت: عبدالله حبيب (دمشق: منشورات وزارة الثقافة السوريَّة،1998 )، 51.
(40): جيمس جويس، الأموات، ت عبدالمنعم المحجوب، 5.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني
