أنساغ: الوطن هو أن يحدث كل ذلك مرَّة أخرى

28 يناير 2024
28 يناير 2024

(1)

ينبغي الكف عن استدرار، وابتزاز، وتوسُّل، واسترجاع مظلوميَّة الوطن الشَّجنيَّة والتراجيديَّة هذه (إذا كانت البلاد لا تصلح لك ولا تصلح لها، فلماذا ينبغي إزعاج المواطنين الصَّالحين بذلك)؟

لكن الكارثة الحقيقيَّة هي اتضاح استحالة المغادرة.

(2)

بالنسبة لي، في علاقتي بأفلام مايكل هانيكه، هناك شيء يروق لي ويستفزُّني تماما: الجريمة كاملة، والانتقام غير ممكن، وإن حصل فهو جريمة أخرى فحسب. ويستفزني شيء آخر أيضا: كل ذلك يحدث بكاميرا أعصابها موضوعة في ثلاجة.

(3)

أنا غاضب (وفي الحلم الذي تتظاهرون به، أنا غاضب أكثر).

أنا غاضب أكثر من صراخ المقبرة.

أنا غاضب قبل تسامر اللحود.

(4)

سنلتقي على الرصيف، في الثالثة والنِّصف صباحًا، عند زاوية الشَّارع، حين تكفُّ المدينة عن ادِّعاء الأقمار، وصفقات الليل، والسيَّارات المخمورة.

سوف نكون العاصمة.

(5)

بصورة من الصُّور، بل بكل الصُّور: أنت لا تستطيع أن تكون ميّتا (فحسب). زفيرك الأخير هو شهيقهم الأول وأوَّل السَّتائر والمتاريس. انعدام قدرتك على تحريك رجلك أو ذراعك سيكون تمرينهم التمهيدي لكسر ما تبقى من عظامك وروحك.

ستتكفل العائلة بك شلوًا، شلوًا، وسيكون المشهد جنائزيًا (من الخارج فقط، ومن باب دفع الضريبة الصغيرة والنَّزيهة).

سوف يخرجون بك من المسجد بعد الصلاة البروتوكوليَّة والاضطراريَّة، وسيصمُّون آذان الضَّفادع بالبسملات، والحوقلات، وسيهبونك لأخبث الطُّيور، وأسوأ الرُّواة.

لكنك، للأسف الشديد، لن تستطيع أن تكون ميتا.

(6)

ينقضي الأمر في البحر (لم يعد البحر يسكن في بيوت النَّاس، لم تعد مجز الصُّغرى الشَّهيق. وقد قال أحد محاوري سقراط إنه «جَلَب الفلسفة من غيوم السماء إلى بيوت النَّاس»).

وعلى الرغم من الكر والفر، والإعجاب والامتعاض، بين نيتشه وسقراط، فإن أهمية سقراط تكمن في تلك العبارة حقَّا

وبهذا الوجدان ذاهبٌ أنا الآن للسِّباحة في البحر.

(7)

يستطيعُ مَنْ جمجمتهُ كأسٌ أن يشرب كل الأنخاب الآن.

(8)

أتوسَّل إليك: رَحِّب بهم جميعا في المقبرة قُبيل أن تنام، أو قُبيل أن تصحو (وأيضا أكرم وفادتهم في الضَّغث).

(9)

في ليلةٍ ما، سوف أحفر كل تلك المقبرة كما يحدث في أسوأ نسخة من سلسلة أفلام مصَّاصي الدِّماء البائسة والشَّنيعة (وسوف أنبئكم بالمياه، والعطور، والبخور، والزُّمور، والسُّفور، والنُّشور، واعتذار الجِيَف عن التبرُّع بالمزيد من الروائح واللوائح، والعذاب الذي وعدُّتموني به).

(10)

لا أحد يستطيع إزاحتك من ضحكتك (سوف يزيلونك، بعيدا عن الضِّحكة، فقط).

(11)

لا أحب الصَّباح إلا في المساء (الليل تنويع، والشَّياطين والملائكة في الحانة منذ أن تدحرجت الشمس نحو الشروق، أو نحو المغيب).

(12)

ينبغي أن تكون الحياة تهرُّبا أو سهوا.

(13)

لا يتقدَّمون في غُسلك، ولا يتأخرون عن لحدك (أولئك المؤمنون أكفُّهم مرفوعة إلى ظَهْرِ القيامة ابتغاء لرضوان الرَّب).

(14)

عاش طوال حياته وحيدا في كوخ صغير ومعزول على طرف الغابة. لكنه تفكَّر في صباح هذا اليوم أنه لا بد أن يكون هناك، في الغابة أو على أطرافها، أناس لا يريدون أن يموتوا وحيدين. ولذلك فقد أخذ معه زوادة صغيرة وبندقيته ودخل إلى الغابة.

حين عاد في المساء وجد كوخه مليئا بطيور، وحيوانات، وزواحف ميتة.

(15)

يتَرَذْرَذَ نعاس على نجمة، ويجرف الطوفان الحشمة.

(16)

الموت هو الملعقة، والشَّوكة، والسِّكين، وما احتسينا من نبيذ وشموع في العشاء.

الموت هو العربة على الطَّريق الثَّلجي إلى الفندق بعد نهاية السَّهرة في الرِّواية القصيرة/ فيلم «الأموات» لجيمس جويس/ جون هيوستن.

(17)

لقد أنجزت السَّماء كل شيء عليها أن تنجزه، وآن لها أن تعود إلى هناك.

(18)

تلك الأضواء لا تزال بعيدة (يا قلبي الصغير).

(19)

أموتُ في الوجل. أُنازِعُ في الُّلقيا. لا أمَّ لي كي تبعدني عن الأجل.

(20)

أيها الضَّباب: يا نعيمي القديم الوحيد. أنت النقمة الوحيدة المتاحة الآن.

(21)

لن أقف عند هذا الطَّلل (ذكراكِ عند الماء، قبل الكثبان، بعد المُعَلَّقة).

(22)

يواصلون بث نشرة الأخبار (بعد فاصل قصير وحروب طويلة).

(23)

تركتُهم للصَّمغ (وأخشى عليهم من الحكاية).

(24)

لأن الوردة مَحْضُ لون.

(25)

في تلك القبلة انبثقت الطُّيور، والعريش السَّعفي، والكلمات التي لم تعد لنا.

(26)

لا أراهنُ عليكِ (ألا ترين كيف سيأتي ما تبقَّى من سنين)؟

(27)

أكتبك (هكذا) يا من لم تكوني قط.

ولم أعد أخشى من النَّوافذ، ولا الفوانيس.

(28)

موتي يطوف على إفطارهم. جثماني ثقيل على ضحكاتهم. سيارة الإسعاف تئن تحت بغال القرية. لحدي بعيد عن غمزاتهم. شهادتي لن تكون قريبة من شواهد قبورهم. حسن جدا، لا أريد أن أقول إنني حُرٌ بالمطلق (لأنني حُرٌّ بما فيه الكفاية في مأساتي، وفي مأساتهم).

(29)

الحياة شأن ثقيل (مثل الموت، والموانئ، والمطارات، وآخر تذكارات الحب).

(30)

يلزمني شيء كثير منك في الاحتضار.

(31)

احذَر: إنهم، منذ الليلة، يقيمون حفلة باذخة لاستذكارك.

(32)

لا يختارون خيارهم، ولا يزحفون نحو القلعة.

(33)

لم يكن مسكينا حين لم يجد ما يقوله. مسكينٌ هو لأنه قاله.

(34)

لم أعد جائعا، ولا يتيما، ولا وحيدا (وليس في الكتب أي شيء).

(35)

أقصدكِ كأنني الدَّمعة. أمضي عنكِ مثل الماء. أتجدَّدُ في العريش الذي يحفره الرَّمل.

(36)

قد لا يكون الجوهر إلا محاولة لاستكمال الصورة.

(37)

يموتون في النُّطق، ويهندسون الباقي.

(38)

السُّكَّر حلو. البحر مالح. الثَّورات عظيمة. النِّساء جميلات. الحياة بعيدة.

(39)

إلى غسَّان كنفاني (بقليل من التصرُّف الذي تمليه غزَّة، والتاريخ، والتراجيديا الفلسطينيَّة): الوطن هو أن يحدث كل ذلك مرَّة أخرى.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني