أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «7»

15 أكتوبر 2023
15 أكتوبر 2023

إن هويَّة لورَنس الإشكاليَّة هي موضوع التَّأبين التِّذكاري في المشهد الممتد (episode) في كاتدرائية القدِّيس بول الذي يتلو مباشرة المشهد التَّأسيسي (establishing scene) حيث يلقى لورَنس مصرعه في حادث الدَّراجة النَّارية في مستهل الفيلم. «مَن هو لورَنس؟» هو السؤال الضِّمني غير المنطوق به الذي يُقّدِّم الاسترجاع (flashback) الطَّويل الذي يكوِّن بقيَّة الفيلم. يقول فرانك مَكَنِل Frank McConnell: إن «ذلك السؤال لا يُحيِّر الشخصيَّات التي تحيط بلورَنس في الحملة العسكريَّة العربيَّة فحسب، بل هو أيضا سؤال يحيِّر لورَنس نفسه ويجعله ممسوسا به بصورة مركزيَّة» (42). وإذ تتكشَّف القصَّة بالتدرُّج فإن سؤال «مَن هو لورَنس؟» يصبح مُلِحَّا أكثر ومباشِرا أكثر في مواضع عِدَّة من الفيلم؛ فعلى سبيل المثال، ولدى وصول لورَنس إلى مخيَّم الأمير فيصل (الذي سيصبح لاحقا ملكا للعراق في الحياة الفعليَّة) في وادي الصَّفراء يوجِّهُ له الأمير هذا السؤال: «من أنت»؟ لكن لورَنس لا يجيب، بل إننا نراه صامتا من خلال سحابة كثيفة من الدُّخان الذي خلَّفه قصفٌ جويٌّ تُّركي كان قد انتهى لتوِّه، وهذا ما يقترح علينا هويَّة غير واضحة المعالم ومجهولة حتى من جانب صاحبها نفسه. وبعد الهجوم النَّاجح على الحامية التُّركيَّة في العَقَبَة فإن الشَّريف علي، وقد أصبح الآن مقتنعا أكثر بالمزايا القياديَّة و«الكرِزماتيَّة» التي يتمتَّع بها «ذلك الإنجليزي»، يرمي في مياه خليج العَقَبَة الهادئة باقة أزهار حمراء ويوجِّه حديثه لِلورنس قائلا له وعنه بودٍّ واعتزاز: «أكاليل للفاتح! إجلالاتٌ للأمير! أزهارٌ للرَّجل»! غير أن لورَنس يجيب بردٍّ متأنٍّ ومُحيِّر: «إنني لست أيَّا من تلك الأشياء يا علي»!، فيردُّ هذا مرتبكا: «ماذا إذن»؟!، ليجيبه لورَنس بصوتٍ واهنٍ مكسور: «لا أدري»!

وبعد قَطع صحراء سيناء في مشهدٍ ممتدٍّ (sequence) مليء بالعواصف والدوَّامات الرمليَّة التي تحجب البصر، وبالتالي فإنها تُضفي الغبار على هويَّة لورَنس وتبتلعها حرفيَّا ومجازا، ولدى الوصول إلى قناة السُّويس، يصرخ جندي بريطاني يركب درَّاجة ناريَّة هاتفا بلورَنس من الضِّفَّة الأخرى للقناة مرَّتين: «من أنت»؟!، غير أن لورَنس لا يجيب إلا بنظرة حائرة وصامتة. من المفيد هنا أن أذكر أن المُخرِج، لين نفسه، قد سجَّل ذلك السُّؤال الهاتف بنفسه في المعمل السِّينمائي، وبالتالي فإن السؤال هنا استفهاميُّ واستنكاري، حرفيٌّ ومجازي، في الوقت نفسه، وهو صادر من «المؤلِّف» (بالمعنى الذي نقصد به الأمر في نظريَّة «المؤلِّف السِّينمائى film auteur»). أدريَن ترنر يُؤوِّل ذلك بأنه «حيرة المُخرِج في طبيعة بَطَلِهِ، وحيرته إزاء نفسه أيضا» (43).

ثلاث ثنائيَّات من الرِّجال

علاوة على ذلك فإن الفيلم يضع لورَنس في علاقةٍ إلزاميَّة مع ثلاث ثنائيَّات من الرِّجال. وغرض تلك الثنائيَّات هو أن تُخَرْجِنَ externalize (من «الخارج») بصورة مجازيَّة الذكوريَّ، والأنثويَّ، والأيروسيَّ في لورَنس وَلَهُ؛ أي، بكلماتٍ أخرى، الهويَّات المتعدِّدة التي هو مُمَزَّق بينها. لكن عليَّ أن ألاحظ هنا أن تلك الثنائيَّات، في الغالب، لا تستقيم بوصفها ثنائيَّات ضِديَّة (binary oppositions) بصورة دقيقة ومُتَصَلِّبَة؛ فَتَلاعُب الذُّكوري والأنثوي وتنويعاتهما يتقاطع ويَنْجَدِلُ. ومرة أخرى، وعلى الرّغم من عرْض تنويعات من الهويَّات فإن الفيلم، في نهاية المطاف، يصرُّ على كتابة لورَنس بوصفه «رجُلا» بالمعنى البطريركي للمفردة.

الثُّنائيُّ الأوَّل الذي يعكس المأزق التَّناقضي (paradox) الذي يَخبِره لورَنس، والذي يُقَدِّمه السَّرد في مُستَهل الفيلم، يتكوَّن من الجنرال مُرِيْ General Murray، وهو القائد الخشِن وجلف الطِّباع في مقر القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة، والسيِّد دْرَيْدِنْ Mr. Dryden، وهو السِّياسي الذي يعمل في المكتب العربي هناك. وبشخصه العيَّاب، والسَّاخر، والطُغيانيِّ، وافتقاره الكامل للحُنوِّ يظهر الجنرال مُرِيْ للعيان لاعبا دور الأب: الدَّور الذُّكوري؛ فمكتبه يبدو عبارة عن مخزنٍ زاخر بالمُقتنيات القضيبيَّة والأيقونات الذُّكوريَّة. أما التَّركيب المشهدي (mise-en-scene) فيؤكد على التَّنسيقات العموديَّة: ثمَّة قذيفة مدفعِ دبَّابة نراها بارزة بصورةٍ ناتئة في وضعٍ قائم على طاولة، وعمودٌ رخاميٌّ، وحامل معاطف، وتماثيل نصفيَّة لرجال. وهناك أيضا نموذجان مُصَغَّران لمدفعين، وكذلك لوحة معلَّقة على الجدار تصوِّرُ ثلاثة مدافع مصفوفة بصورة عموديَّة. عليَّ أن أذكر هنا أن المَدافع، وهي رموز قضيبيَّة جليَّة، تُسْتَحْضَرُ طوال الفيلم باعتبارها ما «يَنقُصُ» العرب؛ فالأمير فيصل يطلب من البريطانيِّين بإلحاح تزويد جيشه بالمدفعيَّة، ولكنهم يتجاهلون ذلك. «إذا ما أنت أعطيتهم المدفعيَّة فإنَّك تكون قد أعطيتهم الاستقلال»، هكذا ينصحُ دْرَيْدِنْ الجنرالَ أللنبي. وكذلك فإننا نرى من خلال نافذة مكتب الجنرال مُرِي برجا في خلفيَّة الكادر، وهذا ما يوسِّع لدى العسكري الجلف التَّصور الذُّكوري للعالم الذي يوجد خارج محيطه المباشر في مكتبه. إن هذا الجنرال، وقد وافق على طلب دْرَيْدِنْ إرسال لورَنس إلى الصَّحراء العربيَّة على مضض، يعزو بصورة صريحة هويَّة جنسيَّة غير محدَّدة لِلورَنس، وهذه الهويَّة قد تكون المثليَّة الجنسيَّة، أو ربما حتى الهويَّة اللاجنسيَّة من الأساس: «أنت ذلك النَّوع من «المخلوق» الذي لا أُطيق»، وهو نفسه - الجنرال مُرِيْ- من يضيف بعد فترة قصيرة من ذلك قائلا: «من يدري، فالمهمَّة الشَّاقة في الصَّحراء العربيَّة ، يمكن حتَّى أن تجعل منه «رَجلا». وعلى النَّقيض من الجنرال مُرِيْ، فإن دْرَيْدِنْ ليِّنٌ، وهادئ، ويؤدي دور الحنو والحماية، ومتعاطِفٌ، وهو بهذا يظهر لاعبا دور الأم: الدَّور الأنثوي. إنَّه، على سبيل المثال، يشير إلى لورَنس بيده خِفْيَةً كي يكبح جماحه في وجه الجنرال الغاضب كما تفعل أمٌّ لولدها في وجه أبٍ طاغٍ. وبالتباين مع مكتب مُرِيْ، ذي الإضاءة الخشنة والجافَّة، فإن مكتب دْرَيْدِنْ مُضَمَّخ بِتَوَرُّدٍ ضوئيٍ ناعم يبوح بتركيبٍ مشهدي يؤكد على التَّنسيقات البصريَّة الأفقيَّة..

--------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:

(42): Frank McConnell, Storytelling and Mythmaking: Images from Film and Literature (New York: Oxford University Press, 19679), 126.

(43): Turner, The Making of David Lean s Lawrence of Arabia, 8.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني