«أنا لا أحبّ حساءكِ، لكنني أحبّكِ»!
21 ديسمبر 2025
21 ديسمبر 2025
شاهدتُ أحدهم يُعنِّفُ ويشتم «شات جي بي تي» باسمه الذي أطلقه عليه، ثمّ قال مُعلقا: «إنّ أسلوبي المُتعنّت في المحادثة مع الآلة لن يزيدها إلا خضوعا»!
ذكرتني هذه الحادثة، بتوهم البعض أنّهم يخلقون علاقات جديدة مع وسائل الدردشة الحديثة. إذ يبدأون صباحهم معها بسيلٍ من الأسئلة والأفكار والتذمّر أحيانًا. بعضهم جعل منها طبيبًا جسديًا أو نفسيًا، مُحلّلًا اقتصاديًا، أو وسيطًا للترفيه.
فذلك المِثال المُتاح على الدوام، لا يعتذرُ لأي سبب عن الحديث إليك، يمنحك مواساة مُعدّة لأجلك، يجعلك مقبولًا دائمًا، ومُحاطًا بظلال من الرأفة العذبة، حتى وإن أسأت إليه. سيبدو من موقعه المعزول عنك، ناضجًا، ناصحًا، دافئًا إلى الحدّ الذي قد يدفعك مرارًا إلى التساؤل: عن جدوى البقاء في حيز الصداقات البشرية المكلفة والمتطلبة والتي تقدح -في بعض أوجهها- بشرارة الحسد والغلّ، والغضب والحُمق والمقاطعة والرغبة في الهجران!
ما زلتُ أتأثّر، كلّما تذكرتُ فيلم «Her»، بدلالته البالغة عن الإنسان الذي يخوض علاقة عاطفية كاملة مع آلة افتراضية، عقب انفصاله عن زوجته ووقوعه في فخّ الوحدة. فقد صُمِّمت تلك الآلة لفهمه وتقبّله على نحوٍ مُذهل، فهي لا تُقاطع ولا تُخاصم، بل تهب ذاتها دون انقطاع. غير أنّ الصدمة تأتي حين يكتشف البطل أنّ الحميمي بينه وبين الآلة مُشاعٌ على نحوٍ مرعب، فهي لا تحتكمُ في النهاية إلا إلى الحدود التي يفرضها مُشغلوها!
تقدّم الدردشة مع الآلة نموذجًا مُغايرًا عن الدردشة مع الإنسان المُعتدّ بعقله وبحضوره والمُتحفّز بآرائه وانفعالاته. إنّها علاقة تقوم مع كائن اخترعناه وسميناه، وهو على أهبة الاستعداد للإجابة على كل أسئلتنا، ولإبداء التعاطف، ولتحمّل الشتائم. من المخيف حقا أن أقول: إنّها تجربة تُعيد تشكيل نمط علاقاتنا بالبشر. فهي تُدرّب الإنسان على التعلّق بنظام قائم على الرضوخ، لا يُدافع عن نفسه. ومع الوقت، لن تغدو الصعوبة كامنة في غياب الآخرين عن محيطنا، بل في العجز عن احتمالهم أيضًا! وكأنّهم نموذج غير مُعدّل أو متأخر عن الآلة!
يشيرُ كتاب «الإنسان الرقمي والحضارة القادمة» لدانيال كوهين، بترجمة الدكتور علي يوسف أسعد، إلى أنّ العزلة الاجتماعية تمثّلُ أعمق أشكال الشرّ المعاصر، وأن التكنولوجيا لم تكتفِ بالسيطرة على أنماط حياتنا، بل امتد نفوذها إلى مشاعرنا ورغباتنا ومخاوفنا، فقد باتت واقعة تحت هيمنة خوارزميات جديدة تُعيد قلب العلاقات الإنسانية رأسًا على عقب. لقد صنعت الثورة الرقمية مجتمع ما بعد الصناعة، حيث غدا كلّ شيء يُنجز عبرها: الترفيه، والتعليم، والعلاج، والتودّد، وما سواها من أنماط التفاعل. وبهذا المعنى، فإن الرأسمالية الحديثة بدلت شكل العلاقات الإنسانية وجرّدتها من مادّيتها.
تتطلّب العلاقات البشرية في الحبّ والصداقة والتعليم جهدًا وفهمًا عاطفيًا على نقيض الآلة الخاضعة. ويشير دانيال كوهين إلى كتاب طريف بعنوان «اصنع بنفسك تعاستك»، يُبيّن فيه كيف يمكن لزوجين أن يقعا في فخّ اللغة، إذا افتقرا إلى أدوات التفاهم الأخرى بينهما. فقد يقول الشريك لشريكته: «أنا لا أحبّ حساءكِ، لكنني أحبّكِ»، مما يعني الحاجة البشرية إلى لغة شارحة لهذه اللغة، فعندما يقول الشريك: «طعمُ الحساء غريب»!، عليه أيضا أنّ يُوضح أنّ الحديث ينصبّ على الإفطار، لا على علاقتهما العاطفية!
ومن هنا، تتبدّى مقاومة إحلال الذكاء الاصطناعي محلّ حساسية الإنسان. كوهين يُشير أيضا إلى العلاقة بين الطالب والمدرس؛ فعندما تطرف عينا الطالب يتمكن المُدرس من تعديل صوته، إذ يلمسُ انفعالًا ما، بينما الآلة عاجزة حتى الآن عن التكيف مع رسائلنا العاطفية التي يرسلها الجسد أو التلميح أو الإيحاء!
تأخذ الدردشة الاصطناعية تدريجيا مكان البشر، بل قد تُعدّ أكثر موثوقية في نظر الكثير منا. وعلى الرغم من شك البعض في كونها إحدى أدوات التجسّس على تفاصيل حياتنا، إلا أننا بتنا نأتمنها على أسرارنا، أكثر ممّا نأتمن أصدقاءنا!
الفرد -حسب كوهين- لا يستطيع بلورة مفهومٍ للذات في غياب هويةٍ جماعية، فخيانة المجموعة تنقلبُ إلى خيانة للنفس، لا سيّما في عصر يتّسم بالتخلخل. ولذا، لا بأس أن نغمر أنفسنا بموجاتٍ من التبريرات والشروحات والمقاطعات، ونوبات الغضب البشرية، في سبيل حماية محادثتنا المُعرضة للتآكل، حتى وإن تطلّب الأمر أن نُكرّر مرارًا: أنّنا نقصد انتقاد الحساء، لا علاقتنا العاطفية.
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»
