أنا الحرب..ومن حولي السلام

27 نوفمبر 2022
27 نوفمبر 2022

تأتي الحرب كمصطلح بكيان مستقل، يدرّس ويدرب ويجنّد له الشعب كاملا، ليكون أبعد من ذلك فيحمل فلسفة تطال حياتنا اليومية، لتعبر الحرب وإن تبدّى السلام من حولنا؛ عن تلك التصارعات البسيطة التي تحدث في يوميات الحياة الاعتيادية، فتلك الصراعات جاءت مع خلق الإنسان، وما جبل عليه من احتياجات تطالبه إلى تلبيتها، وما يقتضيه الأمر من سعي ومنافسة وصراع، ليتطور الصراع ما بين الفرد والبيئة أو الحيوان، إلى صراع بين الأفراد، فتنامى المصطلح إلى أن أصبح يتسع لصراعات العالم بشعوبها، ليكون وبقدر امتداده ارتداد رجعي في داخل الإنسان، لتعبّر أيضا عن تلك الحروب الداخلية التي يعيشها الإنسان بينه وبين نفسه، والأنا والمثل العليا التي تتضارب أحيانا مع متطلباته واحتياجاته المادية.

لتأتي رواية الحرب للكاتب الدكتور " محمد اليحيائي " لتصحبنا إلى تفاصيل أخرى، من حرب اندلعت بادئ ذي بدء من الداخل لتطال منطقة ظفار، ويتسع مداها بين الأرجاء لولا أن تم إخمادها بعد سلسلة من الأحداث والتفاصيل، وليعطي حكاية حرب ظفار بعدا دراميا، فطالما الحرب من الماضي فلا بأس من الحديث عنها " عن الحرب المنسية "، فيحكي كمن "عبر من عالم إلى آخر، من دون أن ينتبه إلى الفرق ".

يستهل الكاتب روايته بخصوصية تامة تشابه المكان ومرتاديه، فيتلصص القارئ على ما هو جاهل به خجلا، أو أنه تلصص نابع ومشوب بما يشابهه من تفاصيل، يتوجس القارئ ريبة من أن يرتطم بتفاصيل مزعجة تربك إدراكه الكلّي، ولا يرتاح إلا بعدما يعرف أنه من مدخل واحد من عالم شاسع اتسعت فيه المداخل وتنوعت الأبواب فيتنفس الصعداء، يعرف أنه سيطوف من الأبواب، وسيفتح للمزيد من الإرباك، لكن هذه المرة سيرحب بريح أتت بالحب والحرب في آن، ليضيع منذ أول عتبة الباب فتتحول عبارة " الحرب لعبة، إلى الحب لعبة "، فيأتي بذلك التحول، فيقول في نفسه أهلا بطرقات نغيّرها مليئة بالحب، وإن كانت على غير طريقنا ومسلكنا.

ليأخذنا الكاتب في رحلة عبر شخوص بأسماء، ذات طابع يشي بتضارب زمانين في هويتهم، زمن للحرب وزمن ما بعد الحرب، لتلتقي كريستينا سعيد برفاق السفر من الجالية العمانية، ولينظم اليهم آخر قادم من جبال ظفار، فوق منعرجات جبل سمحان، بروح الجبالي الحر ليمسك زمام الحكاية، فيقلب الطاولة بما فيها من فن وأدب وتعليم، اجتمعوا حوله إلى حديث حول الحرب، هناك " حيث الحياة بعيدا.. من دون التزامات ..هي الحرية"، وفي حوار مختوم ببنط عريض "سري للغاية "، وليحكي عن تلك " الحرب التي انتهت بنصر أحول"، فلا زالت " الدولة بنفسها تبحث عن نفسها "، يروي عن الحرب " فيهوي أعمق فأعمق في بئر الحكاية"، فمع ذكرى الحرب " أغمض عينيك وأفتح قلبك "، فأحاديث عن الحرب " باتت من مقتنيات الذاكرة".

ليحكي لهم عن ذلك " الراحل الذي لن يعود، الذي إذا عاد لن يعود "، "الرجل العائد من الموت في دشداشة السجين المهلهلة، الدفتر ذي الغلاف الأخضر، ومياه الحكاية التي تفيض وتأخذه في تياراتها "، لتبدأ الحكاية كبحر هادر مهما صفا إلا أنه لن يخلو من الأمواج أبدًا، " إن نجوت من الحرب، لكنك لم تنج من الحب، يا لقسوة الحياة، أليس الحب لا الحرب هو الخدعة؟"، فتح الدفتر الأخضر ليتساءل " إذا كان الذي يحدث، حلم رجل ميت"، " لتنمو الحكاية مع تطور فصول الحرب "، ليمتلئ النص بافتراضات وحكايات مفتوحة لتظل أبد الدهر حيّة خالدة.

ليروي لنا عن حرب ظفار ولسان حاله يقول، أنا الحرب ومن حولي السلام، ليعيدنا إلى زمن مضى، إلى تلك الحنجرة الجبلية للفنان السوري " فهد بلّان"، " من صرفيت إلى شرشتي..فرق وطنية أحرار، ومن فوق سهولك ضلكوت..جيش عمان الجبّار"، كان حديثه أشبه بفيلم وثائقي كذلك الحلم الذي يراوده، بأن ينتج ذلك الفيلم والذي يعده نتيجة محتمة للحرب، فللحرب غنائم كثيرة، وكما تأتي المناصب من غنائم الحرب، تأتي أيضا دروس الحرب وفلسفتها، كأجمل ما قد تخلّفه الحرب، فهل يعقل أن تقام الحروب أساسا لأجل تلك الغنائم الفلسفية؟، يأخذنا الكاتب إلى حكاية ذلك النزاع المسلّح، والذي يتنامى فيما بعد إلى حرب ظفار، التي كانت بسبب شرارة صغيرة تسبب فيها " مسلم بن نفل "، بعد أن تصدى لسيارة تابعة للاستعمار البريطاني ليتم اعتقاله بعد ذلك، وما أن أطلق سراحه حتى استعان بجرح حرب الجبل الأخضر الذي لم يبرأ بعد، فلجأ إلى السعودية تحديدا إلى الشيخ " غالب بن علي الهنائي"، فيحصل على دعم مادي، لفريق ثوري سمي فيما بعد "الجبهة الشعبية لتحرير عمان"، إلا أن محاولة اغتيال السلطان سعيد بن تيمور عام ١٩٦٦م، اضطرته إلى تضييق الخناق بالجنود والشعب، حيث إنه كان آنذاك يعيش في ظفار، ليؤجج ذلك من الثورة، ويزيد من ضراوتها، لتتوسع بذلك دائرة تبرر لهم ضرورة الحرب، واستنادا إلى مقولة أرسطو " الحرب وسيلة وليس غاية، وسيلة للسلام "، "وهناك حرب طالما هناك أمل في الخلاص"، لتبدأ الحرب وكغيرها من الحروب مبنية على المكر، وليغفو ذلك البأس النائم في أفئدتهم، وذلك الكره المدفون في داخلهم، حيث كما جاء في نظرية فرويد إن " العداوة طاقة حيوية فطرية "، وفي ذلك الوقت ما بين عامي ( ١٩٦٥- ١٩٧٥م ) قد آن لتلك الطاقة الدفينة أن تفيض حربا واحتجاجا.

ومع تولّي قابوس بن سعيد -رحمه الله- الحكم، حاول حل النزاع بالسلام ومراضاة الأطراف، إلا أنه لم يتمكن من إخضاع الثورة، فقامت القوات النظامية العمانية مع الجيش البريطاني، معركة ضد الحركة الشيوعية في ظفار المدعومة من الحركة الماركسية، في الاتحاد السوفييتي والصين، لتسفر الحرب وتضع أوزارها بوحدة عمان، في أجواء مفعمة " بالطائرات التي تقذف بالبصاق "، والقضاء على الشيوعية بعد أن خلّفت وراءها ٢٨٠ قتيلا.

وكما أن للحرب فصولها فإن للرواية فصولها وانتصاراتها وهزائمها، وكما أن للحرب هوية وثقافة وجيولوجية، فإن الرواية اكتست كتلك الحرب بتعدد الهويات المتصارعة، وكما أن كل حرب تبدأ من الداخل، فإن الحرب هنا بدأت من الداخل أيضا.

فما أن يهدأ كل شيء من حولنا؛ حتى تنغلق الأفكار على نفسها، فتجد من ذلك الوقت والحيلة ما يمكنها من إشعال حرب داخلية ذاتية، بينك وبين صراعاتك الأزلية الفطرية ما بين الاحتياجات والغايات والمثل والمبادئ والواقع، وأناك الذي لا يمكن المخاتلة معه، والذي يعرف جيدا ما يريده، وما إن تشتعل حرب خارجية حتى نعيد التفاتتنا مجددا إلى العالم من حولنا، محاولين إصلاح وتدارك ما يمكننا من إخماد حربنا الداخلية، ويظل الأمر سجالا ما بين حربين، فتكون بذلك الحرب بأشكالها "قدرنا المؤجل"، ولأن " الحرب صناعة الإنسان، والحب هو صناعة الله، لهذا الحرب عابرة، والحب باق ".