أمي في غابة الرائحة

03 أبريل 2024
03 أبريل 2024

كان الوقت يقارب الضحى عندما خرجتُ من الفندق وتوجهتُ إلى ساحة البلدة في بون، كي أتناول فنجان قهوة وربما قطعة كريب مغمسة بالشوكلاتة أشتريها من العربة الواقفة بالقرب من بيت بيتهوفن، ثم مضيت ناحية مبنى البريد، وتوقفت عند بائعة الفاكهة، التي قالت لي: إن موسم الخوخ يكاد أن ينتهي، فاخترت بعض الثمرات التي كانت ممتلئة بالعصير وجلدها وبري وناعم.

ملأت كيسا ورقيا كانت قد ناولتني إياه، ثم عدت وسلمته لها فوزنته، وقالت: «خمسة يورو»، فدفعتها لها، وأخذت الكيس ودسست رأسي فيه، واستنشقت رائحة الخوخ الفغمة، شعرت بها تنتشر في رأسي، ترنّحت قليلًا من قوتها، وشعرت بقدمي تفقد ثباتها.

ضممت الكيس الورقي ومشيت وسط الساحة باتجاه الزقاق الذي سيأخذني إلى موقف الحافلات، كان لحذائي الجلدي والمصنع خصيصا ليبقي مشيتي مستقيمة دون عرج، صوت غير منتظم وهو يطرق حجارة الساحة، لكنه صوت يذوب بسهولة في الأصوات الأخرى؛ صوت عربات أطفال تجرها أمهات صغيرات يرتدين تنانير جلدية قصيرة. ثلاث أمهات مررن إلى جواري، وثلاث عربات وثلاثة أطفال، كان الأطفال نائمين، والأمهات يتحدثن بصوت عال، لكنه يذوب أيضا، تماما كصوت حذائي الجلدي، في خليط أصوات الساحة.

وقفت مع الآخرين تحت المظلة أنتظر باص الساعة الحادية عشر وعشر دقائق، لم تكن تمطر لكن ريحا قوية وباردة اندفعت فجأة، فارتفعت تنانير السيدات، وتطايرت أطراف الشالات، التي ما لبث مرتدوها أن لفوها بإحكام حول رقابهم، أما أنا فكنت أرتدي البنطلون وشالي مدسوس بين كنزتي ومعطفي، لكني كنت خائفة على كيس الخوخ أن يفلت من بين يدي، فضممته كطفل إلى صدري، واحتميت بمظلة الانتظار.

ركبنا الحافلة الذاهبة في آخر محطاتها إلى المستشفى، كنت شاردة نوافذ البيوت التي تكر أمامي بإطاراتها الخشبية، بدانتيلها الأبيض الظاهر من خلف الزجاج، بجنائن الورد الصغيرة المعلقة على أفاريزها.

خطرت في بالي حديقة بيتنا في القرم، أحواض القرنفل، الجهنمية التي تصعد من عند نافذة غرفة التلفزيون لتستقر أمام نافذة غرفتي في الطابق الثاني، الياسمينة التي تعربش على عريشة الخشب وسط مدخل البيت الشرقي فتستقبلنا بضحكتها البيضاء، الريحان في الأحواض الرخامية محاذاة المدخل الجنوبي الذي يفضي بابه إلى مجالس الرجال، حوض أشجار الورد المحمدي المحاذي لنافذة مجلس النساء؛ حيث تستقبل أمي ضيوفها في غرفة مفروشة بالسجاد الصيني والكثير من الكلام.

كيس الخوخ في حضني، أدس رأسي فيه، ثم وأضمه بقوة إلى صدري، أستنشق رائحته وأنا أراقب كر البيوت حتى تنتهي وتبدأ الغابة، الغابة التي تختبئ فيها أمي.

نمضي صعودا في طريق متعرج وعلى الجانبين صفوف متداخلة من أشجار البلوط والصنوبر، أبحث بعيني عن سنجاب بين يديه كوز صنوبر كما في أفلام الرسوم المتحركة، لكني لا أجده.

نصل إلى فسحة أعلى التلة، فسحة كبيرة يتوسطها المستشفى الجامعي، حيث ترقد أمي في غرفة بالطابق الثالث.

أتسلل إلى الغرفة، محاذرة إصدار صوت يوقظها، تضع أختي إصبعها على شفتيها مشيرة لي بالهدوء، أضع حقيبتي على الكرسي، وأحتفظ بكيس الخوخ مضموما إلى صدري حتى لا يخرخش، تبحث عيناي عن صحن، فتشير أختي إلى منضدة في طرف الغرفة، آخذ الصحن وكيس الخوخ إلى الحمام، أدلق الحبات كلها في الصحن ثم أضعه في وسط الحوض، أطوي الكيس بهدوء وأضعه في السلة، أغسل الخوخات في الصحن، فيزداد حضور رائحتها، أتخيل الفرحة في عينيها عندما تراها.

أنشف قاعدة الصحن وأطرافه بمنديل ورقي، أضع الطبق على المائدة الصغيرة المتحركة، وأجلس لأراقب وجهها النائم، تقرأ أختي قلقي في وجهي فتهمس بأنها تتشافى ببطء ولكنها ترفض طعام المستشفى، تشير أختي إلى أنفها، دلالة لحاسة الشم الحادة التي تملكها عوضًا عن السمع الذي فقدته مع الأيام.

تقول أختي: إن أمي تتألم كثيرا في الليل وإنها لا تكف عن نداء على أمها، وإن الطبيب أمر لها بجرعة إضافية من المسكن، تقول أختي: إن أمي ستكون بخير، أرسل لها قبلة من البعيد، خشية أن يوقظها قربي.

أعتذر لأختي؛ لأنها مرهقة لأني لا أستطيع أن أحل محلها ولو لليلة، تبتسم أختي وتهمس: تعرفين أنها لا تريدك هنا، ترى جرحي في عيني، فتأخذ يدي بين يديها وتكمل: تعرفين أنها لا تثق، ثم توميء إلى قدمي.

تستيقظ أمي، نقوم من مكاننا لنرفع ظهر السرير ونساعدها على الاتكاء براحة على الوسائد، عيني أمي تدور في وجهي، تبتسم وتهمس لي متسائلة بفرح ككل يوم: أنت هنا؟

ثم يتغير وجهها، تضيق عينيها، وتتحرك متبعة أنفها، حتى تقع على طبق الخوخ، يتكرمش أنفها، وبتقزز رهيب تشير إليه بإصبعها.

لا أفهم، أنظر إلى صحن الخوخ، ثم أنظر في وجهها ولا أفهم.

«خذيه، خذيه بعيدا».

تقوم أختي من مكانها مسرعة، تأخذ الصحن وتخرج من الغرفة، أنظر إلى وجه أمي والتفت إلى خطوات أختي التي غادرت الغرفة ثم عادت بلا صحن وبلا خوخ وبلا رائحة.

هدأ وجه أمي عندما اقتربت أختي منها ومسحت على رأسها، وهمست لها وكأنها طفل: سأحضر لك العصير، ستشربين العصير.

تشير لي بطرف عينها فأناولها علبة العصير من داخل الثلاجة، تثقب طرفها بقشة البلاستيك، تضع طرفها الآخر بين شفتي أمي، تمص أمي العصير وتهدأ ملامحها أكثر، تنظر لي وكأنها تعتذر، عن الخوخ والرائحة وربما ثقل رجلي.

أبتسم ثم أستدير جارة قدمي التي أصبحت الآن أكثر ثقلا إلى النافذة، أقف عند النافذة، أرى الغابة، أفكر، أمي في الغابة والذئب شرير وأعرج.