أريد فقط أن أنام
09 نوفمبر 2025
09 نوفمبر 2025
الأربعاء، 3 أبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
حاتم وأنا في مدينة غريبة ليست عربيَّة ولا أمريكيَّة، ومن هناك تخطِّطان للسَّفر إلى مدينة أو بلاد أخرى. تذهبان إلى ما يبدو أنه مركز للتَّسوُّق لشراء حقيبتَي ظَهر. تدخلان إلى ما يشبه سوقاً شعبيَّاً وليس حديثاً، وتبدآن في معاينة وتفحُّص أنواع مختلفة من حقائب الظَّهر. أتفحَّص بعناية واحدة من تلك الحقائب، وهي ذات جيوب وخروج صغيرة كثيرة. أكتشفُ فجأة جيباً داخليَّاً مرسوماً عليه صورة غليون مُخَطَّطَة بلون أبيض على لوحة سوداء صغيرة. ليست هناك صور على بقية الجيوب بحيث ترشِدُ إلى ما ينبغي أن يوضع فيها. تخبر حاتم عن اكتشافك فيقترح فوراً أن تشتريا اثنتين من تلك الحقائب.
تقول له إن لديك أصلاً حقيبة صغيرة للغليون ومستلزماته، ولذلك فإن الجيب المخصَّص للغليون في حقيبة الظَّهر لا يثيرك كثيراً. وقبل أن نتِّفق، أفيق بخوف شديد غير مُبَرَّر، وأعجز عن فهمه بعد الاستيقاظ.
الخميس، 4 إبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
الليل مطر الرَّغبة على صحراء قانية.
الجمعة، 5 أبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
العزلة. العالم حشود من صمت. الروح ضجيج.
السبت، 6 أبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
فلتندلع الثَّورات في كل مكان لنتخلَّص من هذا الضَّجر، ونتعوَّد على قضاء وقت الفراغ في عصيان جديد.
الجمعة، 12 أبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
كلُّ هذا الليل، ولا شيء كلُّه بعد.
الاثنين، 15 أبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
homage إلى كافكا:
«إذ استيقظــت الآلهة ذات صباح من أحلام مزعجة وجدت نفسها وقد تحوَّلت في سريرها إلى حشرة ضخمة».
الثلاثاء، 16 أبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
ماذا أفعل إذاً؟
الأربعاء، 24 أبريل 1991، سان دييغو، كاليفورنيا
س: ماذا تقول أقراص الـ Wellbutrin الحمراء؟
ج: تقول: ضَع الشمس على لسانك وابلعها مع رشفات من الماء.
حين الجسد هو وحشيَّة الشِّعر لماذا أُوشِّح البوح بوحشية القصائد، لماذا؟
لا أستطيع أن أطيق هذا أكثر.
أقول ذلك للمرة الألف الأولى، وأحاول، في كل مرة، عبثاً أن أؤنسنه لينسى. جسدي يرتجف كروح تقرعها الطبول؛ جسدي الذي ينوء بمضَّادات الاكتئاب الكاذبة، والمُنوِّمات والمهدِّئات المزعجة.
الأسوأ هو أن الـ Wellbutrin، إضافة إلى الغثيان، والصداع، والاضطرابات المعويَّة، والدوار، والرؤية الضبابيَّة، أصبح يهددني بنوبات تَشَنُّجيَّة بدأت طلائعها في الوصول، وهذه يمكن أن تكون من الآثار الجانبيَّة لهذا الدواء في حالات نادرة واستثنائيَّة حسب قول الطبيب (وفيما يخص «الحالات النادرة»، والاستثنائية»، و»غير السائدة» فإني من أوائل المرشَّحين).
بدأت مقدمات ذلك بالرَّفسات اللإراديَّة التي تنفِّذها أطرافي المنتمية إلى جهاز عصبي يزداد تعصُّبه علي وتآمره ضدي. في الليل، حين أحصل على بعض الوسن بعد ساعات ثقيلة من عذاب الأرق، وأشعر أني في لحظة السقوط البطيء إلى النوم، أهوي إلى رجفة عنيفة تبدأ بثقل مفاجئ في الرأس، بينما يتخذ لساني وضعاً انتحاريَّاً بين أسناني، فأهبُّ جالساً، ثم واقفاً، كي أسمح لدورة الدم بالدفاع عن نديمها. واحتياطاً، أعضُّ اللحاف.
هكذا يأتي ذلك على مشروع النوم، فألجأ إلى أقراص الـ Tranxene، وأقضي وقتاً آخر أحياناً حتى الخامسة حلكةً كي تبدأ حفلات الكوابيس؛ تلك التي أعود من كل منها متمنياً بكل صدق المفجوع أن تنشق الأرض وتبتلعني، ثم تهوي عليَّ بساطور الأعماق ألف مرة، ثم توزع الأشلاء الألف على قاراتها ومحيطاتها حتى لا يتاح لتلك المِزَق أن تجتمع من جديد في كائن يُقدَّر له هكذا رعب مرة أخرى أبداً.
وفي اليوم التالي (أو ما تبقى منه): حيويَّة معدومة، اختناق، غثيان، رعشة، ظمأ وجفاف في الحلق لا ينفع معهما كثرة شرب الماء، تركيز غائب في المحاضرات، وصعوبة في الكلام. يتعلق الأمر بالضبط بمشلول قرر أن «يتناسى» شلله، فغادر مقعده الإلزامي ليمشي. هكذا إذاً أمشي بتظاهر متقَن يصدِّقه كل من أقابله في حياتي، بل إني أصدِّقه بنفسي أحياناً.
الآن، لا أستطيع أن أعيش هذا الفصام المتعمَّد ليوم آخر: طريقة حضوري أمام الاكتئاب، وطريقة حضوري أمام الآخرين. مرض. الاكتئاب الحاد المزمن مرض، والأرق الحاد المزمن مرض: مرضان لا يمكن استئصالهما إلا بجرأة عظيمة.
أما الحزن فهو شيء آخر تماماً: إنه شعورٌ رقيق، شفَّاف، خلَّاق، إنساني، شعري. أعطوني حزن هذه الأرض من آدم إلى الدماء وخذوا اكتئاب هذه الليلة فقط. خذوا أن يلعق المرء مرارته متدلية من سقف الوجود.
لست خائفاً من الموت (وإن كنت أخاف منه أحياناً فأنا دوماً مثل سبارتِكوس في رؤيا ستانلي كوبرِك: «خوفي من الحياة أكثر»).
كل أنشطة حياتي حتى الآن أنشطة موتيَّة بامتياز، ولكن ليكن الموت أقل خسَّة مما يفعل. ليكف عن هذا التقسيط غير المريح، ولِيَجىء مرة واحدة كما في حادث سيارة، ذلك الرحيل المجَّاني مثله، وإلا فليأتِ في اللحظة التي أطلبه فيها بالضبط.
لماذا ماطلتَ وخذلتَ أيها الموت في 29 سبتمبر 1990؟ لماذا تملَّصتَ من كميَّة أقراص كانت كافية لقتل جبل؛ ذلك التمنع الحقير في احتضار أشفق على صاحبه الملكوت فانصرف بملائكته تأففاً من الغطرسة. لماذا، قبل سنوات طويلة من ذلك التاريخ «...» بينما الأب يرقص متجبراً لأنه أهان ولده الصغير وصفعه وأبكاه أمام أقرانه، فهرع إلى البندقيَّة التي بالكاد حجم رصاصتها كافياً لقتل عصفور أو غراب، لكن أخته دخلت الغرفة فجأة؟
لا أريد أن أكون البطل التراجيدي في رواية كتبتها السماء في بدايات تأثُّرها برومانسيَّة القرن الثامن عشر الألمانيَّة. لا أقبل أن أكون ضحيَّة سوء فهم السماء للميلودراما في أفلام فاسبندر.
جرَّبت كل شيء: الجري المفرط، السباحة المسرفة، الأقراص، حمل الأثقال (كما لو أني بحاجة للمزيد منها)، تمارين الاسترخاء، اليوغا، اللبن الفاتر، الحليب الساخن، «حليب الضحى الأسود» (بول سيلان)، وكل شيء، كل شيء.
بيد أني لست مسيحياً في الرؤية النيتشويَّة كي أكره جسدي، فما أنا ضحيَّة جسدي بل إثم جسدَيْ غيري، ولستُ أصغر من «قَدَري»، ولهذا فلا خيار أمامي سوى «أن أحب قدري».
لا أريد أن أكتب عن هذا مرة أخرى. لا أريد وصف الأرق والاكتئاب. لا أريد مصاف الكتابة. أريد فقط أن أنام.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني
