الإنجاز أم البصمة

23 سبتمبر 2025
23 سبتمبر 2025

بدأتُ العمل مؤخرا بنظام التوقيت الحُر، بعد أن عملت لمدد طويلة نسبيا بنظام البصمة التقليدي، وهو المقياس الأبرز لالتزام الموظف في أغلب الجهات إذا لم تكن كلها، حيث توضع أجهزة البصمة عند الأبواب، وتُسجّل بدقة فائقة توقيت الدخول والخروج حتى لا تكاد تفلت دقيقة من عدد ساعات العمل المحددة، ضمن ما سجلته ذاكرتي القديمة، هو اصطفاف الموظفين أمام جهاز البصمة قبل موعد الخروج بعشر دقائق. فتجد الموظف يتجول بين المكاتب حتى تحين ساعة الانطلاق ليضع إصبعه على الجهاز القدسي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. 

اللافت في هذا الأمر، هو انتصار فكرة أن الانضباط الزمني لا يعني بالضرورة تمام الإنجازية؛ فقد يحضر الموظف في الموعد، لكنه لا يضيف قيمة ملموسة، في حين قد يُنجز آخر في ساعات عمل أقل أضعاف ما ينجزه غيره في يوم كامل ملتزما بإطار زمني واضح ومحدد وغير قابل للمرونة. وغالبا ما يكون برفقة مدير «جلاد» مهمته الرئيسية هي مراقبة وقت الحضور والانصراف قائما بذلك مقام الحارس الأمين. 

وأعود إلى تجربتي مؤخرا في العمل بنظام التوقيت المرن؛ حيث إنني خرجتُ بمحصلة تتلخص في أن آلية العقلية الكلاسيكية التي تركز على التشديد الرقابي في توقيت الحضور والانصراف، تخلق موظفا حاضرا بخمول روتيني، غائبا بجهد غير فاعل وطاقة غير نشطة. بينما تحتاج المؤسسة إلى موظف يقاس بأثره ومخرجات جهده وتفكيره النقدي. 

النجاح المؤسساتي اليوم مرهون بالانتقال من سياسة البصمة إلى ثقافة المسؤولية الفردية، والإنجاز، والأثر؛ أي أن معيار التقييم يجب أن يتلخص في إجابة واحدة. وهي ماذا أنجزت؟ لا متى حضرت ولماذا انصرفت باكرا! ولا أزعم أن نظام البصمة نظام فاشل بالمطلق؛ حيث إنني أرى الجانب الآخر من فرض الفكرة، وهي أنه وسيلة ضرورية لضبط الحد الأدنى من الالتزام في المجتمعات التي يؤمن فيها الفرد بأن وظيفته هي حق مشروع له ويقع ضمن مسؤوليات الدولة بصرف النظر عن أهمية الالتزام الأخلاقي والأمانة في العمل. فالبصمة هنا تضمن العدالة بين الموظفين وتُقلل من الاستغلال والتقاعس والتسويف، وتمنح الإدارة أداة متابعة موضوعية للحضور. 

وتركز المؤسسات الكبرى اليوم على مفهوم «KPI»، وهي مؤشرات الأداء الرئيسية التي تقيس حجم الأهداف المحققة خلال فترة زمنية محددة من قبل الإدارة. وهذا يسهم بشكل مكثف في زيادة الإنتاج وسرعة الإنجاز بل وتحقيق بعض الأهداف العامة للشركة والانتقال بسلاسة واختصار إلى الأهداف الموسعة الكبرى. 

المطلوب هنا هو الموازنة بين البصمة لضمان الانضباط وتحقيق العدالة، وبين التوقيت المرن لإطلاق وتنشيط طاقات الموظفين ورفع حس المسؤولية والمشاركة في الإنجازات؛ حيث إنه عندما تُدار المؤسسة على أساس المسؤولية الفردية، والإنتاجية، وأن الموظف في كل درجاته الوظيفية جزء غير مهمل من معادلة النجاح العام، فإنها تنجح في تحقيق بيئة عمل متوازنة لا رتابة فيها، كما ترتفع الطاقة الاستيعابية الفعلية. 

آية السيابية كاتبة عمانية