الاستجارة والإجارة

23 سبتمبر 2025
23 سبتمبر 2025

لا يُدركُ الهمج الرعاع فاقدو الأخلاق عديمو الحسّ بالإنسان معنى الإجارة ومعنى الضيافة. هم مستعدّون لقتل الضيف، ولسفك دماء النمل إذ لجأ إليهم طالبًا السكن والسكون. هم مستعدّون لقطع ألسنة العصافير إذْ تغرّد بغير ما يشتهون. هم مجبولون على حرق كلّ جلد لا ينبض بعفنهم. 

الاستجارة والإجارة قيمة عربيّة درجت من زمن يسبق الإسلام، وعُرفت قبائل وبطون وعشائر بالإجارة، كما عُرفَ أشخاصٌ اشتهروا في تاريخ العرب بقدرتهم وقوّتهم على الإجارة. مفهوم الاستجارة والإجارة بسيط وواضح: أن يطلب أحدهم الجوار وأن يحصل عليه. والاستجارة هي في الظاهر طلب الجوار، وفي الباطن طلب الحماية؛ فإن أُجير طلب الإجارة تمتّع بالحماية كاملة، وأصبح يجري عليه إن التزم بأعراف الجوار ما يجري على أفراد القبيلة. فإن قُتل أو اُعْتُدي عليه بأيّ شكلٍ من الأشكال طالبت القبيلة المجيرة بأخذ حقّه دمًا أو مالاً. وقد أقيمت حروبٌ في تاريخ العرب؛ بسبب الاعتداء على الحاصل على الإجارة. 

هي قيمةٌ مهمّة عند العرب تُشبه ما أصبح يُسمّى اليوم مدنيّا باللُّجوء السياسيّ. هذه نقطة توضيحيّة أولى في أدبيّات وأخلاق ما فعله الكيان الإسرائيليّ الفاقد لكلّ القيم الإنسانيّة في اعتدائه على أرضٍ «محرَّمة» على دولةٍ تُدير معاهدات سلام، وتسعى بمباركةٍ عالميّة لتقريب وجهات النظر بين المتنازعين. أرض قطر هي أرضٌ أوّلا قد أجارت طالب الحماية. أجارت وفدًا مفاوِضًا، وأصبح دم المستجير من دم المجير. ثانيّا: أرض قطر هي أرض تقبّل واستقبال لوفودٍ تتّفق معها وتختلف. هي تستقبل أيضًا وفودًا عالية المستوى من الكيان الإسرائيليّ، وهي تتعهّد بحمايتهم وإجارتهم وتوفير سلامتهم حتّى انقلاعهم من المكان، وتطهير أرض السّلام منهم؛ ولذلك فإنَّه في أعراف السياسة وأعراف الأخلاق يُحرّم الاعتداء على هذه الأراضي مهما كانت الحجج. ثالثًا: إنّ الكيان الإسرائيليّ يُقيم خطابًا متداعي الأركان، ويحكم على أهل غزّة كلّهم بالموت، ويُجوّز اعتداءه على قطر بأنّها أرض تضمّ «الإرهابيين» من حماس، ولكنّه في الآن ذاته يجلس مع هؤلاء «الإرهابيين» ويتفاوض معهم، ويعقد معهم الاتّفاق تلو الاتّفاق، ويُوقّع معهم العهود والمواثيق. تأتّت لي فكرة الاستجارة مصحوبة بأدبيّات الوفود عند العرب، وأنا الأشدّ إيمانًا بأنّ الأمم تُعرَف بتواريخها ووقائع أزمانها الغابرة. فكرة الاستجارة والإجارة ظاهرة في علاقة قطر بالفلسطينيين الذين وهبتهم مكانًا آمنًا لعيش كريم، فأصبحوا في عُهْدتها؛ ولذلك فإنّ عربيّة قطر تقتضي -لِزامًا- أن تثأر لأهلٍ أجارتهم. أمّا الوفود فإنّ دماءهم في القيم العربيّة وفي القيم الكونيّة وفي منطق السياسة محرَّمة، ولا يجوز مهما كانت نسبتهم وانتسابهم أن يُقتَلوا أو يُهانُوا. وتقتيل الوفد الفلسطينيّ دفعني غصْبًا إلى متابعة جلسة مجلس الأمن الطارئة التي انتصبت بمناسبة الاعتداء الإسرائيلي على أرض قطر، ومنَّيتُ النفس بخطاب شديد وقرارات أشدّ يتّخذها مجلس الأمن لمعاقبة «الدولة المارقة»، وقلتُ في نفسي أيْضًا سأسمع كلامًا عن الجوار وعن أدبيّات الوفود، وستُعلِّم ونُعْلِم العالم أنّنا منذ الجاهليّة كنّا حاملين لقيمٍ لم يُدركها العالم تسنينًا وتقنينًا إلاّ في العقود الأخيرة. وقلتُ في نفسي أيْضًا: إنَّ العرب في تاريخهم قد كانوا أهل سياسة ويبرعون في خُطب الوفود حتّى تسمّى جنس من القول لديهم بخطَب الوفود أبدعوا فيه، وقارعوا الحجّة بالحجّة، وأبكتوا أباطرة الكون منذ العصر الجاهلي. وككلّ الهزائم التي مرّت بي خابت آمالي، وخرجتُ من اجتماع مجلس الأمن باليقين نفسه الذي لازمني منذ عقود، وهو اليأس من أمم صارت تخشى كِيَانًا غاصِبًا بذيئًا، وإن علا شأنه. خرجتُ من الخُطب وقد تابعتُها كاملة بانطباعات عددٍ، وأنا مهتمّ بالخطاب وأحابيله وخططه. كان هدفي أن أركّز على بنية الخطب التي قُدّمت، وخرجت بملاحظات مفادها أنّنا ما زلنا نميل إلى الخطابة والعمل على التأثير بها إزاء مُخاطَبٍ لا يتأثّر بفنون البلاغة وقوّتها. 

الخطابُ الأمريكيّ -وهو الخطاب الفصْل- لم يتعامل مع «صديقيه» بنفس الدرجة؛ فمال إلى تبرير أفعال الاعتداء، ولم يغضب. وكان خطابه قائمًا على التذكير بما تعرّض له الشعب اليهوديّ المسالم من مجازر ومن تقتيل وتعنيف على أيادي الفئة الضالّة الظالمة! خطاب له المعاني الثقال في ميزان السياسة. وهو خطابٌ مُخاتلٌ لا يرْضي الغضب الشعبي العربيّ المكتوم، ولا يُغضب المُعتَدى عليه، ويشيد بالمعتدي ويُوجِد له الأعذار، ويتصدّر لتوضيح موقف المعتدي وتبرير أفعاله. 

ومهما وهبنا الأمريكان من هدايا ومال وحسن ضيافة فإنّهم في الأصل ليسوا في صفّنا. 

الخطاب الثاني الذي استرعى انتباهي هو خطاب الأردن، وهو -على وفرة أخطاء اللّغة- التي لن ينتبه إليها أحد- خطابٌ قويّ بلاغيّا وتصويريّا. هو خطاب قائم على الوصف، ونعت الكيان الإسرائيليّ بشتّى النعوت، ولكنّه لم يحو نقطتين مهمتين خروجًا من القول إلى الفعل، ومن الوصف إلى الأداء، وهما: إعلان قطع العلاقات، وتوجيه الخطاب إلى بيان الفارق بين وسْم الفلسطينيين بالإرهابيين وبين ضرورة نعتهم بالمطالبين بأرضهم وبحقّهم. 

معادلةٌ بسيطة فارقة لم ينتبه إليها أحد أو لم يرد أحد الانتباه إليها أو أرادوا عمْدًا الإعراض عنها، وهي معادلةٌ يُمكن أن تُسقِط الخطاب الحجاجي «المقنع» البعيد عن البلاغات القوليّة المائل إلى ضرب الحجّة بالحجّة الذي قدَّمه ممثّل الكيان، وهي أنّ الفلسطينيين هم مُستعمَرون، ويُطالبون بالاستقلال من سلطة مستعمِرة يقف وراءها كلّ العالم دعمًا وإسنادًا، وأنّ هؤلاء الذين يُطالبون باسترجاع أرضهم تجوز لهم كلّ أشكال المقاومة. 

هنالك ضبابيّة وتداخل في المفاهيم يبدو أنّ العقل السياسي العربيّ، وكذلك الخطاب البلاغي السياسيّ قد دخلا فيها بإرادة. هذه الضبابيّة لا تحتاج عقلا فذًّا لإدراكها، وهي ظاهرة للعيان؛ فبين «الإرهاب» (الذي حاروا حتى اليوم في توصيفه، وهو واضح المعالم، ولكنّ التنازع السياسيّ هو الذي أوقعهم في هذه الحيرة) وبين المقاومة والدفاع عن الأوطان هنالك بائن شاسع. لا شكّ أنّ الخطاب الاستعماري الفرنسيّ كان يصف المقاومة الجزائريّة بسافكي الدماء وبالهمج وبالغوغائيين وبالإرهابيين، ولا شكّ أنّ كلّ سلطة استعماريّة ترى في رافضيها العدوّ الألدّ، ولكن يبقى الحقّ أحقّ أن يُقَال. بنية الخطاب العربيّ تحتاج إلى تحيين وإلى وعيٍ وإلى تصوّر يخرج عن المغالطة السّائدة وعن خلط الأوراق، وعن السّقوط في الخطابة الرنّانة المليئة بالصّور البليغة المفتقرة إلى الحجّة المبينة. لقد أبانت أزمة غزّة أنّ الخطاب الحماسيّ العربيّ هو خطابٌ متوجَّه به إلى الدّاخل؛ إلى شعب عربيّ عاطفيّ، ولا يعني شيئًا في عالم السياسة المستند إلى خطاب يستمدّ قوّته من قوّة قائله، وقديمًا كان العربيّ إذا قال فعل. فهل نكون عربًا أوفياء لأجدادنا يومًا؟ 

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي