يوميَّات: غير أنني فعلت في نهاية المطاف
21 سبتمبر 2025
21 سبتمبر 2025
الخميس، 25 يناير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
في كتابة اليوميات تواجه المرء المشكلة نفسها التي تواجهه في كتابة الشِّعر: «ضيق العبارة» وهزال الكلمات.
السبت، 10 فبراير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
الكاتب أكثر ثراء من التاجر: ثروة الكاتب من الثريا وثرى التاجر يُرثى له.
الأحد، 11 فبراير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
أنت خائف وحزين؛ خائف حتى من أن تكمل هذه الجملة.
الاثنين، 12 فبراير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
لا فائدة في كتابة اليوميَّات؛ لا جدوى من كل الحروف.
الأربعاء، 14 فبراير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
(1)
كم يحزننك تلك الصبايا الجميلات اللائي يتجمعن وراء مرمى كرة السلَّة، ويقفزن ببهلوانيَّة انتصاريَّة رخيصة، وغير خالية من إيحاءات جنسيَّة مبتذلة، كلما أحرز أحد الأغبياء هدفا.
كم هي كثيرة أشكال الرِّق المعاصر للمرأة في هذه البلاد.
(2)
كل هذه الضَّجة حول فيلم «مولودٌ في الرابع من يوليو» لأُلِفر ستون! لا أدري كيف تمكنت من مشاهدة فيلم يقول الرَّجل الذي بُني الفيلم على تجربته في حفل منحه جائزة: «بارك الله فيكم! بارك الله في أمريكا»؟!
أما فيلم «مَجْد» لإِدوَرد زْوِك فهو كعكة حلوة مدسوسٌ فيها السم، حيث مسألة التمثيل (representation) المقيتة: الرجل الأمريكي الأبيض «الخيِّر» «the good guy» يتضامن مع السُّود التعساء. أيُّ سحب بساط من تحت الأقدام هذا؟
(3)
كيرستن. أين هي كيرستن، الليلة؟
لا شك أنها بصحبة صديقها (boyfriend) الغبي. كيرستن، تلك البراءة الوحشيَّة في العينين الغجريتين.
هذه ليلة باردة جدا، وأنت تقرأ هايدجر في «الكينونة والزَّمن»، والليلة هي عيد العُشَّاق في أية حال.
الخميس، 15 فبراير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
الغباء، الغباء الشديد في كل شيء. السَّذاجة يمكن أن تُحتمل، بل هي ضروريَّة وإيجابيَّة أحيانا كما في الشِّعر، أما الغباء...
الجمعة، 16 فبراير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
لن أسامحه أبدا (ليتني أستطيع) لكني لن أنتقم منه (بالطريقة المباشرة). حسبي أنني، وبصورة غير مقصودة تقريبا، نقيضه الكامل فكريَّا، وسياسيَّا وأخلاقيَّا. يكفيني هذا التَّرَفُّعُ عن فكرة الانتقام.
الاثنين، 26 فبراير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
الليلة أنت حزين لأنك لا تستطيع أن تكتب في هذا الدفتر بالقدر الذي تريد، ولأن «السَّاندانييّن» خسروا الانتخابات في نيكاراغوا.
أحاول أن أقول لك: لا تحزن كثيرا.
أحاول أن أكذب عليك قليلا، فلماذا لا تحاول أن تصدِّقني قليلا ما دامت ليست أمامنا حرية الاختيار؟
الثلاثاء، 27 فبراير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
يتكلمون عن «مؤسسة» (institution). يتكلمون عن «خطاب» (discourse). يتكلمون عن «ما بعد الحداثة» (post-modernism).
أنت لا يثيرك ذلك إلا بالقدر الذي يعنيك؛ الذي يعني الشَّخص (ego, subject, person).
في الثانية والنصف من صباح يوم الرب هذا حملك غيظك إلى باب بيت الجيران (شقَّتهم، لماذا تنسى أنه لم يعد بإمكان معظم الناس أن يعيشوا في بيوت) كي تطلب بتهذيبٍ جَمٍّ ندمت عليه فيما بعد (ما دام ليس لديهم الحد الأدنى من الحساسية) أن يخفِّفوا من نقيق الضفادع التي تتقافز من جهاز تسجيلهم.
حين «نمت» جاء دور الجاثوم: ترى، أين اختبأت الجواثيم طوال المدَّة الفائتة لتفسح المجال للكوابيس فقط؟ ما الذي يعني أن يفتح أحدهم بطنك بسكِّين وأنت تعرف جيدا أنك مستلقٍ على السرير، والريح.. الرِّيحُ القياميَّة التي تدفع مُخَّك إلى الخارج عبر أذنيك ومنخريك، وأنت بَعْدُ تعرف أنك مستلقٍ على السرير.
تريد أن تكتب عن ذلك بـ«وصف» أدق، لكن لا وقت لديك. تريد أيضا أن تحاور بقايا كلاوديا قبل أن ترحل. تريد أن تكتب ورقتين في مساقات التخصص. تريد أن تكتب عن أمريكا في عام 1904 لأستاذة التاريخ الأمريكي. تريد أن تكتب ورقة عن الأنثروبولوجيا العضويَّة لأستاذة الأنثروبولوجيا. تريد أن تتصل بعيادة الإبر الصينيَّة للحوار مع أعصابك. تريد أن ترى طبيب العيون لأن نظَّارتك لم تعد تسعفك. تريد أن تتصل بطبيب الأنف والأذن والحنجرة الذي أجرى لك جراحة الأنف لأنك لا تزال تشم الرائحة الكريهة نفسها على الرغم من الجراحة، ولا تزال تشعر بالاختناق.
تريد، وتريد، وتريد، لكنك في الصباح كنت تعرج. أنت تتريض بالركض وتمشي بما فيه الكفاية هذه الأيام، لذلك يقلقك ذلك التيبُّس في رجلك. وفي إحدى الكافيتيريات في الجامعة قالت لك إحداهن: إن عينيك غائرتان ووجهك متعَب.
هل هي مصادفة أن يحدث ذلك في اليوم الذي تبدأ فيه بقراءة «المسخ» من مقررات مساق كافكا؟
لماذا تشعر الليلة أن كافكا لا يقول أي جديد؟
الأربعاء، 28 فبراير 1990، سان دييجو، كاليفورنيا:
(1)
الليلة أنت حزين وخائف. حزين لأنك خائف، وخائف لأنك حزين.
(2)
اضطررت أن أترككَ قليلا، وعدتُ لقراءة ما كتبتَ، فأسعدني أنك لم تقل «مكتئب» رغم أنك كذلك.
تعجبني مكابرتك.
(3)
أوجاع قدمك اليمنى تزداد بلا سبب تعرفه.
(4)
في جلسة اليوم من مساق «السينما بوصفها فنَّا واتصالا» أشار الأستاذ المتغطرس، في تعامله معي بصورة خاصة، روي بول مادسن إلى «صانع أفلام روسي معيَّن» (“a certain Russian filmmaker”)-- هكذا قال بالضبط -- استخدم تقنية معيَّنة في فيلم بالأبيض والأسود، لكنه لم يذكر من هو.
ولما سأل، بعد نهاية المحاضرة، عما إذا كان هناك أي سؤال أو تعليق، كان من الطبيعي أن تسأله عن اسم ذلك المخرج الروسي الذي أشار إليه. ردَّ متبرِّما بأنه لا يعرف فهو ليس من هواة جمع تحف أو طرائف المخرجين السينمائيين «movie-director collector».
كان ذلك عجيبا غريبا بالفعل فهذا أستاذ يقول شيئا ثم، حين يُسأل، يقول بكل عنجهيَّة إنه لا يعرف شيئا عنه.
منذ البداية، ولأسباب كيميائية وفيزيائية تقريبا، وربما بسبب لكنتي الأجنبيَّة أيضا، أدركت منذ البداية أن علاقتنا لن تكون على ما يرام أبدا. ولا أظن أن هذا سيكون اصطدامي الأخير به.
(5)
عليّ أن أتخفف من المسؤوليات، من مزيد من المسؤوليات. المسؤوليات تقتلني وحدي وهي لا تعني الكثير لدى من أتحمل هذه المسؤوليات لأجلهم: يكفي ما حصل للآلهة.
(6)
حين عدتُ لشقَّتكَ في وقت متأخر من الليل أضأت الأنوار لتفاجأ بوجود صرصار يتسلق بأناة وثقة كبيرتين جدار الصالة، وزميله الصرصار الآخر يتمشَّى بحركات استعراضيَّة، وتبختريَّة، واستفزازيَّة على أرضيَّة المطبخ.
أمعنتُ النظر إليهما متأملا، وترددتَ كثيرا في سحقهما. غير أنني فعلت في نهاية المطاف.
عبدالله حبيب كاتب وشاعر عُماني
