هل من بصير بيننا؟

17 سبتمبر 2025
17 سبتمبر 2025

ماذا لو استفقتَ في أحد نهاراتك وأنت فاقدٌ بصرك تمامًا؟ أو إحدى حواسّك الخمس؟ وهي نِعم بديهية لا يمكن للمرء تخيّل فقدانها. نمضي في حياتنا متجاوزين وجودها وكأنها أمر مسلَّم به. مؤخرًا، بدأت هذه التساؤلات تغمرني بشكل مُضنٍ! ذلك أنني كنتُ في اجتماع جمعني بفئة المكفوفين في عمل يربطني بهم، فانهارت هشاشتي تمامًا، وتعرّفتُ إلى ضعف لم أعهده في نفسي من قبل. شكوتُ لصديق في نقاش طويل، فنصحني بمشاهدة فيلم At First Sight الذي أُنتج عام 1999م، وهو في الأصل مستوحى من قصة حقيقية.

يطرح الفيلم فكرة عكسية تمامًا، تتلخص في أن أحد المكفوفين، وهو أعمى منذ ولادته، استعاد بصره إثر عملية جراحية استعادت بها خلايا العصب البصري عملها. بدأ يكتشف وهج النور للمرة الأولى في حياته، بعد أن كانت حاستا اللمس والسمع تكفيانه للتعاطي مع يومه ومن حوله. أيّ انقلابٍ شعوري ذلك الذي يحدث حين تتعرّف للمرة الأولى على هوية الألوان، وحدّة الضوء في حدقتيك، حجم الأشياء، تفاصيل الطبيعة والوجوه، ماهية الدفء، عملقة الأشجار وتعاظم البنايات، لون النار، وعالم متخم بالخطوط والأحجام والتفاصيل، لكل منها اسمه وشكله ولونه. إنها مفاجأة قاسية تباغتك بالنور الذي لم يدركه عقلك سابقًا، فيقف مرتبكًا عاجزًا أمام سيل بصري من التفاصيل لم يتدرّج بمهل على استيعابها.

الفيلم – بالنسبة لي – كشف ملخّصًا منطقيًا وغريبًا في الوقت نفسه، وهو أن الرؤية في حقيقتها عملية عقلية أكثر منها بصرية بحتة. إنها مخاض ذهني قبل أن تلد العين الصورة. فالكفيف الذي لم يرَ من قبل، حين يُبصر فجأة، يجد نفسه أمام خطوط وأشكال لا أسماء لها، وألوان بلا معنى، وحركة مشوشة لا يعرف إن كانت تهديدًا أم دفئًا. لذا يقف خائفًا مرتبكًا أمام الأشياء كلها، لأن دماغه لم يسبق أن سجّل قاموسه الخاص الذي يرجع إليه كلما تعرّض لمشهد بعينه. هو هنا يتحرر من العتمة، ولكنه يقف أمام ذاكرة خاوية لا تُسعفه على التعرف إلى الأشياء، فيقع في أزمة مزدوجة: شعور الاغتراب الذاتي، وحاجته إلى عتمته التي كانت تؤمّنه من الخوف. فيحمل عبء بصره كما نحمل نحن عبء نعمته، ويصدم لانعكاس صورته في المرآة التي يراها لأول مرة.

الفكرة هنا تتجاوز حدود الفيلم وأبطاله لتغدو استعارة كبرى للحياة ذاتها. فكل حقيقة أو تجربة أو موقف هو وعي جديد، نبصره ونحن نصطدم بارتباك يشبه ارتباك الكفيف حين يبصر النور. ما يعني أننا جميعًا نعيش في "عمى" نسبي ومختلف، بحسب مواقعنا. وإذا ما داهمتنا بعض الحقائق دفعة واحدة، نتمنّع عن تصديقها أو الإيمان بها حتى تُسجّلها عقولنا وتُحلّلها في معجمها الخاص، فنذعن لها طائعين.

ولكن، ماذا لو منحنا الله فجأة عينًا ثالثة، أو حاسة سادسة تتفوق على ما نملك من حواس، كسمعٍ حاد مثلًا يلتقط ما وراء الأصوات؟ هل سنحتمل هذا الفيض في الوعي والمعنى؟ أم سنشقى كما شقي الكفيف بعد رؤية العالم خاليًا من ضبابية العتمة؟