أين تذهب رواتب المعلمين؟

07 سبتمبر 2025
07 سبتمبر 2025

قد يبدو هذا السؤال للوهلة الأولى أقرب إلى المزاح العبثي منه إلى الجدية المُفرطة، لكنه في الحقيقة يُشبه ما وصفه دوستويفسكي يومًا بأنّه «مزحة ثقيلة تُخفي مأساة كاملة»! فوظيفة المعلم واحدة من أكثر الوظائف التي تستنزفُ جيوب موظفيها، بل -وللمفارقة العجيبة- تنهبها بإرادتهم الكاملة، رغم عدم وجود أي قانون يلزمهم بذلك، إلا أنّ القانون الإنساني أشد عمقا وتبلورا في رئة عُمان..«المدرسة»!

في الحقيقة، فاجأني الرجل الذي صرف «خردة» لزوجته المُعلمة، ولسنا في وقت عيد، وعندما سألته عن حاجته لها، قال: «لا أظن أنّ حقيبة معلم أو معلمة تخلو منها»، فالحس الاجتماعي المُتوهج لا يمنعهم من تقديم العون حتى لأولئك الصامتين المُتعففين. «خردة» قد تبدو صغيرة، في مجتمع مُصغر اسمه المدرسة، يرتادها يوميا ما يربو على الألف نسمة! «خردة» قد تسد جوع طالب لم يُحضر مصروفه اليومي لشدة العوز، «خردة» قد تشتري قلمًا لمن جاء بلا أدوات، أو حذاءً عوضا عن ذلك المُمزق، في وقت تُكابد فيه بعض الأسر عُسر العيش بسبب آفة التسريح وندوب أشباحها!

ولهذه الأسباب وغيرها تغدو جيوب المعلمين أحد صمامات الأمان، داخل سور تعتملُ فيه أشكال الحياة الأشد تعقيدا، فمن بابها الواحد يدخلُ على حد سواء الغني والفقير، السوي والمُثقل بالجراح، الحالم والمقهور!

وكم نراه -أي المعلم- مُتنقلا بين المكتبات باحثا عن آلة طباعة، وفي أفضل الأحوال يستهلكُ أوراق وأحبار البيت. جوار ما يُطلقُ عليه «الصدقات المدرسية» من قبيل: مراوح لساحة الطابور، إصلاحات صغيرة هنا وهناك، وهدايا تشجيعية للطلاب طوال العام! ورغم أهمية ذوبان الفوارق بين الالتزام الرسمي والتكافل الاجتماعي، فإنّ المسألة يشوبها التباسٌ في بعض أوجهها، فهل المُعلم أمام عمل خيري حر أم هو واجب وظيفي خاضع للتقييم!

لا سيما وأنّ منصة «إجادة» تجاوزت حدود التقييم المهني كسائر الوظائف الأخرى، لتغدو لصّا خفيا يسلبُ ما يتبقى في جيب المسكين. فكل فكرة، كل مبادرة، كل نشاط يُترجم إلى فاتورة جديدة تقعُ على كاهله!

في أحيان عديدة يتجاوز المعلمُ دوره المألوف بالنسبة لنا ليغدو على حين غرة مُمولا سريا للمشاريع أو متبرعا في مزاد لا نهائي! وكأنّ «إجادة» غير المُنصفة والمليئة بالتناقضات تقول له ساخرة: «أعطنا أفضل ما لديك من عمل وسدد الأتعاب»!

لكن المعضلة الكبرى ليست فقط في هذا النزيف المالي الطوعي، بل في وحش البهرجة، حفلات للمناسبات، ديكورات، لافتات، صور تذكارية تُسرفُ في الإفصاح عن ذاتها، وكأنّ التعليم يدور في حلقة مُفرغة لصناعة شكل إعلاني فائض عن الحاجة، فيغدو من يتجرأ على النأي بنفسه خارج هذه الكرنفالات الصاخبة مُتهمًا بالبخل، أو عازفًا عن طلب الأجر!

ثم تأتي الإجازة الصيفية، تلك الأشهر الثلاثة التي يظنّ الجميع أنّها منحة سخية، فيتعامل معها باعتبارها حصّة الأسد، غافلا عن أنّ المعلم يُخصم من راتبه بدل التدريس في أثنائها، على عكس وظائف أخرى تُصان علاوتها بلا مساس. وكأنّه يُعاقب على جريمة التقاط أنفاسه بعد عام مُضنٍ من الضجيج، العطاء، والإنفاق اللامتناهي للطاقة والمال!

ورغم ما يكتنفُ مهنة التعليم من أوجاع وخذلان، فإننا نلحظُ تدافع جمع غفير إليها من الخريجين، كما لو كانت المخبأ الأخير للهاربين من مغبة البطالة، فينضوي تحت مظلتها من لا تحرضه نوازع الرغبة الأصيلة! فعندما اختنق موطئ قدم التخصصات الأخرى في سوق العمل، راح الخريجون يحتمون بمظلّة التأهيل التربوي أو بمعادلة المواد، رغبة منهم في راتب ثابت لم يظنوا للحظة أنّه سريع التبخر!

عندما نُدرك أنّ «التعلّم ليس تحضيرًا للحياة، بل هو الحياة نفسها»، وعندما نعي تمامًا أنّ «المعلم هو من يجعلنا نرى ما وراء ما نراه»، كما أراد الفيلسوف جون ديوي أن يُعبّر، سنصون آنذاك مكانة المُعلم التي يجب أن تُقدَّر حق قدرها. فهذا الكائن الذي تمرّ من بين يديه أجيال كاملة من الأطباء والمهندسين والقضاة والعمال، من المؤسف أن يظلّ أقلّ الناس حظًا في التقدير المادي والاجتماعي! وإن كان طه حسين رأى في المُعلم صورة مانح الماء والهواء لهذا العالم، فإنّ ما يبعثُ على الأسى أن يبقى هذا «المانح» في عطشٍ مُؤبد!

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»