الجمل وطائر البجع
ما زلتُ على يقيني أنَّ ممارسة النقد هي فعلٌ إبداعيّ تفاعليّ؛ إذ يلتقي متفحِّصُ النّصوص مع كاتبٍ أو كُتُبٍ يجد فيها أصداءً من نفسه، أو هو ينظرُ فيها نظرَ العاشق لها المحبّ لما فيها دون أن يُعميه ذاك الحبّ عن مواطن الزلل، أو مواقع التكسُّر والانكسار.
وما زلتُ على يقين أنَّ قلَّة من نقَّادنا ومن جامعيينا يقدرون على ممارسة هذا العشق، وإنَّما السّائد هو ثلّة من الأكاديميين أو أشباه الأكاديميين منهم مَن هو نافعٌ، ومنهم مَن يُجاري وظيفةً يكتسبُ منها رِزْقًا، ومنهم مَن يُعطِّل فعل النقد، ويُجرم بقتل النصوص، وإفراغها من جمالها. عرفتُ ناقديْن يُقدّسان الأدب، ويجعلان النقد فعلَ إبْداعٍ لا يقلّ منزلةً عن إبداع الأدب يتفاعلان مع النصوص بعشقٍ لا مثيل له، ويُجريان لغةً تنساب بين أيديهما برْدًا وسلامًا، ويتحرّكان من خلفيّة فكريّة ونقديّة وفلسفيّة ثرَّة وثريّة دون تعسُّف أو تكسُّر أو جفاءٍ أو جفوةٍ أو انكشافٍ وسفورٍ. أحدهما تغلبُ عليه الشفويّة، وتركَ في أنفسنَا حسْرةً أنّه لا يميل إلى الكتابة، وإلى التسابق إلى النشر، وإلى الأستذة وتحصيل المراتب العلميّة، وإنّما هو في تعفُّف عمَّا يسعى إليه طلبة طلبته في غنًى عن الرُّتب العلميّة العسكريّة. عاش ومات وهو أستاذ مساعدٌ، وبقي خلقٌ وفير من الأساتذة الدكاترة «يسرقون» منه جُمله، ويسعون إلى قولِ سطرٍ ممّا يأتي على لسانه عفو بديهةٍ، وهو الأستاذ توفيق بكّار الذي لم يترك أثرًا مكتوبًا، ولم يكن يدخل الدرس مدجَّجًا بأوراق ومصاحف وصحف، ولم يكن يُعدُّ ورقة توصيفيّة أو علميّة لدرسه، وإنَّما يكفيه أن يضع النصَّ أمامه -إن وضعه- وأن ينساب في تفصيله وتحليله ونقده وفق خطَّة منهجيّة دقيقة، وأسلوبٍ رائقٍ جذّابٍ، مُرغِّبٍ حملنا على العودة إلى نصوصٍ جمّةٍ نبحث فيها عن متعةٍ تُضارع المتعة التي عبَّر عنها في نقده. وكُنّا نقطعُ إليه أكباد الإبل على بُعْد المسافة، وقلَّة ذات اليد؛ لننعم بدرْسٍ من دروسه ندخله طوّعًا دون إكراه.
وهذه المشافهات والدروس هي التي دوّن طلبتُه بعضها ونشروها بعد مراجعة الأستاذ بكّار تحت عنوان «شعريّات عربيّة»، و«قصصيّات عربيّة». وثانيهما كاتبٌ مُكْثِرٌ عاشقٌ لنصوص التراث. عندما اكتشفتُه من خلال كتاب «الكتابة والتناسخ» ظفرتُ بكنزٍ ثمين، وأفق وسيع، وانسدّت الثغرة الوسيعة التي تركها في نفسي توفيق بكّار بحرماني من المكتوب والاقتصار على الشفوي بعالمٍ وسيعٍ من كتب لا أملّ من العودة إليها؛ فالكتاب الذي يروقني هو الكتاب الذي كلّما قرأته أحسستُ أني أفتحه لأوّل مرّة. كيليطو ليس ناقدًا أو أستاذًا جامعيًّا، بل هو القارئ المثاليّ للكتب. هو الصَّدى الجميل لمؤلّفات في التراث يُظْهِر لنا حسن وقْعها في الأنفس. كيليطو ثنائيّ اللّسان واحد الهوى والميْل. يأتي من أدب الفرنجة؛ قرأه وامتلأ به، وأدرك أنّ دوره يقتصر على الإفادة من هذه الآداب، والاطّلاع عليها، وفي أقصى الحالات هي مدوّنة لوظيفة يشغلها أستاذا للأدب الفرنسيّ، ولكنّ قوله فيها واشتغاله عليها، وبيان أثرها فيه لا يفيد العالم في شيء؛ فللأدب الغربيّ أهله الذين يقولون فيه، ويتفاعلون معه، وإنَّما حسبه أن يُدرِّسه، لا أن يدرسَه ويتفاعل معه، وكُثْرٌ من أهل العرب ممّن فارقوا ألسنتهم وهجروها، وباعوا دينهم بحجامة. كُثرٌ هم أولئك الذين أخذتهم آداب الغرب، فأعرضوا عن أدبهم، واستصغروه، وأعرضوا عنه. لم يكن كيليطو من أولئك، بل العكس تمامًا؛ فقد كان يقول: «لم يبق أيّ أثر لسنوات من الكلام الأكاديمي. كما أنّه لم يعن لي إلا نادرًا أن أنشر دراسة عن الأدب الفرنسي؛ لأنّني أعلم أنَّني لن أضيف شيئًا يذكر لما يكتبه الفرنسيون. وفضلاً عن ذلك؛ فإنّهم -وهذا هو المهمّ- لا ينتظرون منّي أن أكتب عن أدبهم. أدبهم لا يحتاجني. على العكس من ذلك لم يفارقني شعور ساذج بلا شكّ أنّ الأدب العربي يحتاجني بقدر ما أنا أحتاجه. كان ذلك اعتقادًا ثابتًا لديّ، ولولاه لما كتبت على الإطلاق.
لم يفارقني شعور مبهم أنَّ بمقدوري أن أضيف شيئًا إلى الأدب العربي شيئًا بسيطا تافها، ربّما لا شيء». ففاز بالحسنيين؛ فاز بالعلم بآداب الغرب، وبعشق أدب الغرب يغوص فيه متعةً ودرْسًا، حتّى كأنّه كُتِبَ له، فلا قارئ غيره يتوجّه إليه الجاحظ بكتبه، ولم تُكتَب المقامات إلاّ له، ولم ترو شهرزاد الحكايات الليليّة إلاّ ليتلقّاها، ويُنصِت إليها. عوالمُ يغوص فيها كيليطو بعينٍ ممتلئةٍ جامعةٍ بين تمثّل الآداب الأوروبيّة وميْل القلب إلى أدب العرب. يكتبُ باللّسانيْن؛ يكتبُ بلسان الحيّة، وهو على وعيٍ تامّ بأنّ الغربي لا يُمكن أن يشعر بوقْعِ أدب العرب، ويقول له «لن تتكلّم لغتي»، كما أنّه لن يتكلّم لغته وإن كتب بها. مرحلتان من كتابة كيليطو تعجبني الأولى منهما بشكل أخّاذٍ. مرحلتان، وإن انفصلتَا فإنّ كتاب «الكتابة والتناسخ» هو الجامع بينهما على قِدَمه، وبراعة كتابته، وأصل كتابته فرنسيّ بلغة يقول الكاتب بها إنّه لا يُمكن أن يشعر بنبْضها كما يشعر بنبْض لغته دون تفضيلٍ، أو تفاضُل، وتعهَّد الفيلسوف صاحب الهوى الأدبيّ عبدالسلام بنعبد العالي بنقله إلى العربيّة موافقًا روح الكتاب ومزاج صاحبه، فكان النقل إلى العربيّة كتابةً ثانية لكتاب يكون له شأن كبير في عالم النقد العربيّ لو كانت هذه الأمّة تُقدِّرُ علماءها! المرحلة الأولى هي مرحلة دراسة النثر العربيّ القديم: السياحة في عوالم المعرّي والحريري وابن المقفّع وألف ليلة وليلة وابن رشد هي مرحلة الدراسة، والتفاعل الإبداعي بكتابةٍ وسَمها صاحبها بالكتابة «بالقفْز والوثْب» على قول الجاحظ ونهجه، وهي كتابةٌ أعشقها؛ لأنّها تنفر النهج الأكاديميّ الذي سيّده أهل الجمود النهج القائم على عناصر باردة وسطحيّة، وعلى مراجع شكليّة نملأ بها آفاق البحوث. الكتابة بالقفز والوثْب كتابةٌ حرّة مبدعة أخّاذة.
أمّا المرحلة التالية -وهي المرحلة التي يعيشها كيليطو الآن- فهي مرحلة كتابة السيرة القرائيّة، والإبانة عن ذات قارئ يتفاعل مع النصوص بشكلٍ يخصّه، ويكتشف في عجزه عن الكتابة الأكاديميّة ميزةً في الكتابة، ويُدرك أن نقطة ضعفه التي يراها أساتذته هي نقطة قوّته، فيكتب بالطريقة التي يحبّ قفْزًا ووثْبًا، وبالأسلوب الذي يريد؛ لتصبح الكتابة النقديّة قصّةً نقديّة.
استهواه القصص العربيّ فكوّن منه أرضيّة نقديّة صارت ميزته ووجهه. في كتابٍ جميلٍ عنوانه «في جوّ من الندم الفكري»-وهو من كتب مرحلته الثانية-؛ يقف كيليطو على بعضٍ من المواقف التي زلّ فكره فيها، أو تعطّل لسانه عن الجواب الذي كتمه في نفسه، ويُواصل فيه الكشف عن سيرة قارئ لتراث العرب مثيرًا علاقة أدب العرب بأدب الغرب، ومتوسِّعًا في بيان صلتنا بالآخر كتابة وقراءةً، غير أنّ الكتاب ليس سيرة ذاتيّة عاديّة، وليس مراجعةً لمقولات الرجل ولا لأفكاره، ولا لمذهبه في النقد، وإنّما الكتاب تأكيد لما دخل فيه، ولي فيه -على إعجابي به- مواطنُ لوْمٍ، ومداخل اعتراضٍ على علاقة أدبنا بأدب الغرب، وعلى تمثّل كيليطو لهذه العلاقة التي يعي تعقّدها، وينتقد مرجّحي كفّة الآداب الغربيّة، وهو صادرٌ عن عمقٍ ذهنيّ مبنيّ دومًا على الوقوع في مفارقة المقارنة.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
