المخزنجي والنقاش والبعث الجديد!

24 أغسطس 2025
24 أغسطس 2025

قبل ستة وثلاثين عاما كُنّا على وشك خسارة واحد من أكثر الكُتّاب العرب حساسية ورهافة. آنذاك كان لا يزال شابا يدرسُ الطب في الاتحاد السوفييتي، ولم ينقذه من شعوره بالخذلان العارم سوى مقالٌ نقديٌ واحدٌ نُشر في مجلة المصور عام 1988! 

فقبل أكثر من ثلاثة عقود، تلقّى الكاتب المصري محمد المخزنجي نسخته الأولى من مجموعته القصصية الثالثة «الموتُ يضحك»، لكنها لم تمنحه الفرح المُنتظر، بل غمره الحزن والخيبة، فقد أُثقلت المجموعة بالأخطاء الجسيمة، وطُبعت بركاكة وبغلاف باهت، وكأنّ من جمعها تصرّف على عجل ولا مبالاة، فآثر المخزنجي أن يجعل من دراسته الطبية أولوية، ضاربا بالكتابة عرض الحائط. 

وبينما كان غارقًا في إحباطه الشديد، زاره صديقٌ قادمٌ من مصر، حاملًا معه حباتٍ من المانجة المصرية، وما أن همّ بتذوقها، حتى اكتشف أنّه أحضر له أيضًا مجلة المصور. وبينما كان يتصفحُها، صادف مقالًا للناقد الكبير رجاء النقّاش، فجلس المخزنجي بين جذوع الأشجار في ضوء شحيح، يقرأ المقال بقلق واهتزاز، وما إن أنهى القراءة حتى انفجر بالبكاء والضحك معًا، ثم وقف يدور حول نفسه، فارشًا ذراعيه كما لو يُعانق ضوء سماء الخريف، فيما الأشجار السامقة تُسقطُ أوراقها على إيقاع رقصته الدوّارة، وشقشقات العصافير تعزف لحن اللحظة. 

كان مقال النقّاش بمثابة بعث جديد للكاتب الشاب. ورغم أنّه أشار إلى أخطاء المخزنجي وسجّلها بصرامة، لكنه رآه أيضًا صوتًا مفعمًا بالشاعرية والحزن، مُشبعًا برؤية فلسفية وإنسانية عميقة بعيدة عن السطحية، ووجده يمتلكُ حسًّا شعريًا شديد العمق، قادرًا على مزج الواقع بمشاعره، كأنّها موسيقى يعزفها فنان في حرارة وشجن. ووصف النقّاش قصصه أيضا بأنّها ليست مجرد تسجيل خارجي، بل كتابة تنبثق من رؤية داخلية، تتحكمُ فيها قضايا كبرى مثل الموت، الحرية، وعذابات البشر، فتتحوّل إلى أغنية إنسانية بالغة السحر والجمال. 

قرأ المخزنجي المقال في أكثر لحظاته ضعفا وهشاشة، فأخذ يلهثُ ويتعرقُ رغم جلوسه مستريحًا في عذب الظلال، «إنّه رجاء النقّاش، الناقد الكبير البصير الثاقب، والذي لا يمر من مصفاة ذائقته إلا الأفضل والأصفى والأكثر وعدًا بالقادم. رجاء النقاش الذي قدّم للأدب الطيب صالح ومحمود درويش وصنوه سميح القاسم، رجاء النقاش الذي لا يُهمل ولا يُجامل ولو أنّه كتب جملة واحدة لشعر بالرضا». شرق المخزنجي بالبكاء وضحك في ظلال الغابة في روسيا. 

«ولأنّ التناسي يُؤجج التذكر» على حد قوله، فقد حاول مرارا أن يستعيد المجموعة القصصية، ومن حسن حظه وحظنا كقراء أن زوجته وجدت نسخة قديمة وصالحة للقراءة، فصدرت النسخة الثانية هذا العام عن دار الشروق ٢٠٢٥، والتي قدّمها المخزنجي بمقال يحملُ قصّة المجموعة وأثر القراءة النقدية التي تركها مقال رجاء النقاش فيه، المقال الذي شكّل انعطافة مهمة في مصير هذه المجموعة القصصية. 

مقال واحد من كاتب بحجم رجاء النقّاش أعاد جوهر الكتابة وقيمتها إلى شاب ممتلئ بالحزن آنذاك، أعاد له شغف الكتابة بل اعتبرها وسيلة من وسائل ثأره من انحطاطات كثيرة في هذه الحياة. وقد كتب في نهاية مقاله بأنّ رجاء النقاش أنقذه وسيظل يزهو ويتشرف ويمتن بتلك الكتابة. 

في عالمنا المحموم بالنشر، وتكاثر الكُتاب، هل يولدُ النقاد الذين يُمكنهم أن يعرفوا بدقة ما هو أصيل وما هو دون ذلك؟ هل نستطيع أن نعد على أصابع أيدينا نقادًا من طراز رجاء النقّاش ممن يتركون أثرًا عميقًا في نفوس الكُتّاب، ويقدّمون أصواتًا جديدة بثقة وجرأة؟ أم أنّ النقد انكفأ في دوائر المجاملة، ولم يعد ينظر إلى الأدب إلا من وراء ستار ما ترفعُ الجوائز سبابتها إليه؟ 

هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»