النساء والتفاصيل!

15 يوليو 2025
15 يوليو 2025

عندما كنت في الصفوف المدرسية الدنيا، اتُّهمت بالثرثرة. كان اتهامًا -كما وجدته حينها- جائرًا، وفي محاولة لدفع التهمة عن كاهلي، قررت أن أصمت، فكان صمتًا طويلًا، ثم تمادى في امتداده؛ حتى وجدتني أُجيد الاستماع أكثر من الحديث، بل كنت من أفضل الطالبات استماعا؛ أُعير أذني لكل من رغبتْ في صب أسرارها من معارفي، وكانت نفسي تختزل السر عميقا حتى يغيب فلا أجده.

كبرتُ، وفهمتُ أن المجتمع يسمنا نحن النساء بـ«الثرثرة»، وكأنه لا يُحسن السرد في هذه العالم سوى النساء! على الرغم من ثراء المجتمع العربي بالروائيين من الرجال، ولكن ما يميّزنا هي التفاصيل! فشعرتُ بأن التفاصيل خُلقت حصرا لنا، لعل السبب هو أن المرأة تعيش الحياة بكامل تفاصيلها دون أن يفلت منها شيء.

الغريب أن «الثرثرة» في الذهن العربي الجمعي هي شيفرة نسوية قرينة للسذاجة ووفرة الوقت وقلة النفع، لكن التاريخ والأدب يثبتان العكس؛ فشخصية شهرزاد مثلا، وهي الساردة الأشهر في العالم؛ قد صنعت من الثرثرة استراتيجية ماهرة للبقاء، وقد نجت شهرزاد، وخُلّدت في الذاكرة العربية والعالمية بثرثرتها، وتداول اسمها بسعة في حضارات متعددة مثل: الحضارة الفارسية، والحضارة العربية، والحضارة الهندية. شهرزاد، زوجة ملك دموي سادي وجبار يسمى شهريار، أصيب بإدمان قتل العذراوات بعد ليلة الزواج الأولى بكل منهن؛ انتقاما من خيانة زوجته الأولى مع عبد أسود من عبيد القصر، فتشكّل عند شهريار يقين بأنه لا أمان في كل النساء، حتى اتخم القصر بالموت والقتل.

ثم لان قلب السفّاح أمام وفرة حكايات شهرزاد، حيث قلب دخولها إلى قصره كل شيء. وعلى مدار ألف ليلة وليلة لم يهب نساءه إلى الغياب. ثم تحوّل شهريار بسبب التفاصيل من مستبد إلى إنسان، وإلى طفل يردد بلطف: «احكِ يا شهرزاد». اليوم، نجد في كل بيت عربي شهرزاد! فترى الجدة يلتف حولها الأحفاد؛ مستمتعين بمروياتها عن بطولات الجد الذي سار على الجِمال، وعن العرس الذي استمر أسبوعا، والعمة التي عانت من العين اللامّة وترصّد الجان لها. هذه التفاصيل وغيرها، تعد مراجع تاريخية ارتبطت بالمكان وثقافة ساكنيه.

الطفلة، تتخذ من الأحاديث المتصلة لها معبرا لاستقطاب اهتمام من حولها. لا يهم صدق الحديث وواقعيته؛ الأهم هو أن هناك من ينصت باهتمام ويتفاعل. ثم تصمت الصبيّة صمت حياء حين تبلغ مبلغ النساء. وما إن تصبح امرأة حتى تعود إلى أحاديثها لتصبح حكّاءة. ومن هنا، نكتشف أن علاقة المرأة باللغة هي علاقة وجود ونجاة. فالمرأة تستخدم اللغة كأداة رعاية واحتواء أكثر منها وسيلة استعراض؛ فتجد المرأة نفسها في عهدها الأول بالأمومة، تهدهد طفلها وتناغيه، ثم تتحول هذه الهدهدة إلى توجيه وإرشاد. أما عن المجالس النسائية، فلا تُناقش السياسة وحسب! ولكن تُصاغ التكهّنات لاستخلاص أصل الحكاية منذ بدئها.

الغريب أن المرأة لم تحمل قديما صفة التأريخ، ولكنها كانت راوية مستترة. وقد أجمعت دراسات علم النفس العصبي على أن مراكز اللغة في دماغ المرأة أكثر نشاطا وفورة، ما يجعلها تميل إلى التعبير الشفهي عند انفعالها، سواء بالفرح أو القلق أو الحب أو الغضب. على نقيض الرجل، الذي يتجه غالبا إلى الانسحاب أو الصمت أو الفعل المباشر عند مواجهة الانفعالات. من هنا نستخلص أن النساء أكثر ميلا لاستخدام اللغة في توطيد العلاقات الاجتماعية والعاطفية، بينما يستخدمها الرجال غالبا لنقل المعلومات أو التعبير عن حاجاته. فهل يستقيم المجتمع دون صوت النساء؟!