تدمير العوالم

15 يوليو 2025
15 يوليو 2025

لم يكن لي بعد أن أنهيتُ فيلم الفيزيائيّ، الذي ينعَت بـ «أبي القنبلة الذريّة»، أوبنهايمر (Oppenheimer) للمخرج البريطاني الأمريكي كريستوفر نولان، المقتبس من كتابٍ في السيرة الغيريّة بعنوان بروميثيوس الأمريكي، للكاتبين كاي بيرد ومارتن جاي شيروين، إلاّ أن تنتابني هواجسُ وأفكار تغمّ النفس وتكدّر الفكر، وتحمل إلى التشاؤم واليأس من حال البشر، ومن قوّة الشرّ لديهم.

خُلاصة الفيلم سردُ سيرةِ حياة عالمٍ أشرف على صناعة أوّل قنبلة ذريّة، وهو على دراية ومعرفة بأنّها ستُستَعْمَل في الحرب لإبادة البشر والحجر وللقضاء على الحياة، وقد خُصّصت له وفريقَ عمله من علماء يُضارعونه أو يفوقونه علمًا قرية خاصّة لإجراء الاختبارات في ظروف ملائمة، وموارد ماليّة هائلة، ودعم سياسيّ وعسكريّ فائق. عللُ كدري وغمّي وهمّي أنّي أوّلاً تخيّلتُ لو أنّ الإرادة السياسيّة الأمريكيّة قد همّت بالقضاء على الأمراض والعلل التي لا علاج لها،

وبنت قرية علميّة لفريق من العلماء منذ أربعينيّات القرن العشرين، وجمّعت نخبة من خيرة علماء الكون، لإيجاد أدوية للقضاء على السرطان وللتخلّص من أمراض القلب، وللعمل على إيجاد حياة سليمة للبشر، أفلا يكون ذلك أفضل من تسخير العلم للقضاء على الحياة؟ إنّ العبارة التي صارت مشهورة لأوبنهايمر والتي استقاها من البهاغافاد غيتا (الكتاب المقدّس في الهندوسيّة)، التي تقول: «أصبحت أنا القدير، ممزّق العوالم»، لهي عبارة شافّة عن وعيِ مدير مشروع لوس ألاموس بأثر هذه القنبلة وبما يُمكن أن تفعله في البشر، بل إنّ نخبة العلماء الذين ساهموا في مشروع بعث القنبلة الذريّة وواصلوا هذا الجهد نحو صناعة القنبلة النوويّة، كانوا في حالٍ من البهجة والسّرور عند نجاح تجريبها أوّلا فيما يُسمّى باختبار ترينيتي،

وفي نجاح استعمالاها ثانيًا بإلقائها على هيروشيما وناغازاكي. من علل الغمّ الثانية أنّ الفيلم كان رائع الإخراج والإنتاج، ولكنّ السمّ مدسوس في عسله، ففيه تمجيد بيّن لحركيّة العلم في أمريكا بدايات القرن العشرين، وفيه تلميعٌ واضح لصورة «قاتل البشريّة» العالم الذي ابتهج بصناعة القنبلة الذريّة، وطار فرحًا لنجاح استخدامها، والمتّهم بالمساهمة في تخطيط البرنامج النووي في الكيان الصهيوني، الدّاعم لأمن هذا الكيان، بقانونٍ في ذهنه هو ضرورة امتلاك السلاح الأكثر دمارًا لمنع الأشرار من امتلاكه، في عالمٍ لا نعرف فيه من الشرّير؟ فتصوّروا دوْمًا عند إلقاء القنبلة الأمريكيّة التي باركها علماء من أطراف الكون، أنّ بنتًا في شهرها السادس تغطّ في نوم عميق وقد احتمت بحضن أمّها، ومزارعا لا يعرف أين تقع أمريكا يتوجّه إلى حقله حالمًا، وولدا صغير يقود درّاجته الهوائيّة ويُناثر الآمال بأن يُصبح قاضيًا عندما يكبر ليُحل العدل بين الناس، وفجأة يُلقي الطيّار قنبلته فيكون الانفجار الأكبر، ويموت أناس لا يعرفون أوبنهايمر ولا فريقه العلميّ، ولا يسمعون بأمريكا، ولم تنته إليهم أخبار الحرب العالميّة، ويُقْضى على أجيالٍ لاحقة بسبب السرطان الناتج عن الإشعاع! ركّز الفيلم على تلميع شخصيّة «العالم القاتل»، وألبسه حلّة الندم على ما فعل، وأبان انصرافه إلى العمل على الحدّ من تصنيع الأسلحة النوويّة، والحال أن الرجل كان يُغازل السلطة السياسيّة، ولذلك امتنع عن الدخول في مظاهرات تدعو إلى إيقاف التسلّح النووي، ولم يُمض في «بيان رسل- أينشتاين» الذي نُشر في يوليو 1955، الذي يدعو قادة العالم إلى البحث عن حلول سلميّة للنزاعات الدوليّة والذي يبين مخاطر الأسلحة النوويّة.

المكدّر الثالث، أنّي لمّا رأيتُ الفيلم أردت أن أكوّن فكرة عن هذا العالم القاتل، مدمّر الأكوان، فقرأت عشرات المقالات، وأخذني البحث إلى أصدقائه وصديقاته، وإلى أهله وخلاّنه، وإلى العوالم التي عاش فيها هذا اليهوديّ الأمريكيّ الذي دعته إسرائيل قبل وبعد زرعها في الخاصرة العربيّة فلبّى الدعوة هانئًا ساعيًا، قد أُحيط بمجموعة من العلماء قد لا يسمح التاريخ باجتماعهم ثانيًا، فقد انتبهتُ أوّلاً إلى ما اجتمع في بدايات القرن العشرين وأواسطه من نخب علميّة صنعت دمار الكون، ووجّهت همّها العلميّ أو بالأحرى وُظِّفت طاقاتها العلميّة النادرة في تدمير العوالم، عالمنا وما يحيط به من عوالم مجانبة، ويُمكن أن نتبيّن هذا التراكم العلميّ من خلال مسيرة هذا الأوبنهايمر فثلّة من أساتذته وصحبه وطلبته كانوا من العلماء المرموقين الحاصلين على نوبل، وهو أمرٌ يدعو إلى التمعّن والتفكّر، في توفُّر جيلٍ كاملٍ في القرن العشرين من العلماء البارزين الذين احتوتهم أمريكا وسخّرتهم لمصالحها، فأساتذة أوبنهايمر كانوا من العلماء المبرَّزين الحائزين على نوبل، مثل باتريك بلاكيت، وماكس بورن، وجيمس فرانك، وبيرسي ويليامز بريجمان ، وكذلك كان أصحابه وزُمرته من العلماء الذين تورّطوا في إضافة قسم من العلوم الضارّة، منهم ليونيس باولنغ الكيميائي الأمريكي، الذي عُدّ من أعظم 20 عالما على مرّ العصور، والحاصل على جائزة نوبل 1962، وفيرنر كارل هايزنبيرغ، الفيزيائي الألماني الحائز على جائزة نوبل 1932، ومكتشف أهم مبادئ الفيزياء الحديثة وهو مبدأ عدم التأكّد، وعالم الفيزياء الميكانيكية الألماني باسكوال جوردان، وفولفغانغ باول، عالم الفيزياء النظريّة النمساوي، الحائز على نوبل 1945، وبول أدريان موريس ديراك، عالم الفيزياء البريطاني، وواحد من مؤسّسي نظرية ميكانيكا الكمّ، وإنريكو فيرمي الفيزيائي الإيطالي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1983، والذي أرسى نظريّة الكمّ في الفيزياء، وإدوارد تيلر الفيزيائي النظري المجري الأمريكي، وإرنست أورلاندو لورنس، الحاصل على جائزة نوبل 1939، وأمّا الطبقة الثالثة التي تكوّنت منها هذه الترسانة العلميّة، فهي طلبة أوبنهايمر الذين نبغوا في الفيزياء، ومنهم، ماريا غوبرت ماير، عالمة الفيزياء الألمانية الأمريكية الحاصلة على نوبل في الفيزياء سنة 1960، وكانت عضوا من مشروع مانهاتن، وفي مختبر لوس ألاموس، وميلبا فيليبس، وموري جيلمان، الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل للفيزياء عام 1969، وويليس لامب، الحائز على نوبل 1955. كل هذا الجمع من العلماء، إضافة إلى عدد وسيع لا يحتملهم هذا المقام، وإضافةً أيضًا إلى حضور أينشتاين، الفارّ من ألمانيا النازية، والواقف في خطّ معارضة صناعة آلات الدمار الكونيّة، كانت لهم يدٌ في توجيه العلم إلى التدمير، ألم يكن من الممكن أن يتآزر هذا الجمع لصنع جنّة البشر على حد عبارة الذكيّ الفطن أينشتاين؟ أقول الذكيّ الفطن أينشتاين لأنّه لم يدخل هذا المعترك العلميّ، وإنّما وقف في خطّ المعارضة، ونبَّه السَّاسة وأصحاب القرار إلى خطر العلم إذ يُصبح أداة في معترك السّياسة، تكدّرت وغمّني الهمّ لأنّي فتحتُ قائمة الحائزين على نوبل من أصول يهوديّة فوجدتها في كلّ المجالات تفوق الثلث من عامّة الفائزين عبر التاريخ، وهي قائمة طويلة مديدة تشمل كلّ مجالات العلم والأدب، ووجدتُ القائمة العربيّة فقيرة، ضعيفة، تحوي عددًا محتشما من جهةٍ، ويغلب عليه السّاسة الذين عقدوا أحلافًا مع إسرائيل من جهة ثانية.

حزنْتُ لأنّا نخوضُ حربًا قد ربحوها بتنمية العلم وتشجيع العلماء من زمن بعيد، وبعيدًا عن فكر المؤامرة وعن التخوين، فإنّ التحضّر رهين أرضيّة علميّة وأدبيّة وفلسفيّة واجبة الوجود. الغمّ الأخير أنّ العرب في حاجة إلى فكرة، إلى اعتقاد، إلى أملٍ يرتبطون به، إلى رمزٍ ينشدّون إليه، إلى هدفٍ لا يُماثِلُ ولا يُضارعُ ولا يُشابه الطريق التي سلكها الكون نحو التدمير، قد تكون فكرة جنّة الكون هي الأمل الذي يُمكن أن نؤسّس عليه عصبة من العلماء، فعلماؤنا يسيرون دون هدفٍ ودون رعاية، وهم من الثواني في المختبرات الكونيّة حتّى إن تأمركوا، انتبهوا إلى أنّ القسم الأوفر من علماء القنبلة الذريّة من الألمان انتسابًا ومن اليهود دينًا!.