وِلاج الوعي

30 يوليو 2023
30 يوليو 2023

تمر عليك لحظتك هذه عزيزي القارئ متضمنة خبرة واعية لم يسبق لك أن مررت بها، ولن يتسنى لك المرور بها مرة أخرى، فكل لحظة من لحظات وعينا متفردة تتسم بأمرين هما الثراء المعلوماتي والاندماج، أي أنها ثرية بالتفاصيل السمعية والبصرية وغيرها، ومتفردة بتفرد ما ندركه من حولنا وما نشعر به في كل لحظة، وهي موحدة أيضًا، فأنت تدرك مشهدًا واحدًا بكل عناصره تتماهى فيه التفاصيل البصرية والصوتية والمشاعر ممتزجة لتغدو وترًا في ذاتها، جذب الوعي عقول الفلاسفة والعلماء منذ القدم، وكانت الثنائية الديكارتية في تفريقها بين المادة والعقل معلمًا لطالما ركن إليه من يلج مجال الوعي، وظلت مقبولة حتى زحزحها العلم شيئًا فشيئًا، يقلص الفجوة التفسيرية لانبثاق الوعي كنتاج للعمليات الكيميائية والكهربائية في الدماغ، وإن ظلت الأسئلة الكبرى حول انبثاق الوعي قائمة لم يحلها العلم بعد، ولكن الواقع العلمي يبشّر بفهم أكثر وضوحًا أخذًا بالاعتبار طبيعة العلم التراكمية والتدريجية.

ظلت رهبة الإنسان أمام وعيه سببًا لصرف الانتباه عن إبهام هذه الظاهرة، رغم فتوحاته في فهم الكون والمحيطات وعوالم الأحياء الدقيقة، ولدهور اعتُبر الوعي أكثر المناطق حرمة، ذلك لأنه منح الإنسان رتبة أعلى من بقية الكائنات، أو هكذا ظن كما ظن يومًا أن الأرض مركز الكون، ذلك على الرغم من أن سؤال الوعي لا يقتصر على مجال المعرفة أو الطب وحسب، بل يتعداه إلى مجالات أرحب كالأخلاق، وإلى أخرى أكثر عملية كالاقتصاد حيث اتخاذ القرارات.

تطور العلم من اعتبار الوعي ظاهرة ملغزة ومحيرة يتجنبها الباحثون قبل بضعة عقود، إلى تحقيق منجزات ومعطيات كبرى في مجال الدراسة التجريبية للربط العصبي وأدواته، يعتمد علماء الوعي في تجاربهم على الدمج بين الوصف النوعي الفينومونولوجي للملحوظات والبيانات الناتجة من التجارب، فالوعي خبرة ذاتية بما يتضمنه من إدراك وأحكام ومشاعر، وهكذا فإن علم الوعي يعنى بتفسير الظاهرة وما يمكن التنبؤ به أو التحكم فيه منها.

لكننا لا نعيش الوعي في كل الأحوال، نفقده يوميًا خلال النوم ونستعيده بالاستيقاظ مع استثناء فترة الأحلام، وهذا ما يناقشه مجال يعرف «بمستوى الوعي»، فعندما تحلم، تكون نائمًا بكل تأكيد، ولكن نشاط الدماغ يخبرنا عن حالة تختبر فيها وعيًا أثناء حلمك. هذا عن المستوى فماذا عن المحتوى؟ نحن ندرك ما تدركه الحواس، فأنا أكتب حاليًا مستمتعًا بضوء الشمس يتدفق من النافذة منعكسًا على قنينة عطر بقي شيء من أريجها، بينما أستمع لموسيقى خافتة في خلفية المشهد الذي أخبره الآن، إضافة إلى إحساسي بمشاعر معينة في هذه اللحظة، لكن الأمر لا يقتصر على المستوى والمحتوى، تلاحظُ كيف أنني استخدم ضمير المتكلم ما يشير إلى وجود ذات واعية، وبهذا تكتمل عناصر الوعي، والتي تستدعي محاولة فهمها طموحًا بشريًا غابرًا بالسيطرة على الوعي، وهو وإن كان حلمًا بعيد المنال حتى اللحظة، إلا أننا نقترب من عتبة الولوج إليه، عبر أعماق الوعي، وهو سعي بدأه فرويد بحديثه عن اللاوعي، مرورًا بنتائج التجارب التي كشفت مدى تحكم الانحياز الذهني في حياة البشر، ووصولًا إلى استخدام تكنولوجيا العصر في مراقبة أنشطة الدماغ.

ولعلم الوعي نظرياته التي تتنافس وتتقاطع، وتتكامل أحيانًا، ومن أشهرها نظرية ذات طابع رياضي تعتبر الوعي نوعًا من المعلومات وتعرف بنظرية المعلومات الموحدّة IIT، طورها جيوليو تونوني أستاذ علم الوعي في جامعة ويسكونسن، تتشكل عملية الوعي وفق تونوني من خلال توحيد الكمية المهولة للمعلومات التي تنتجها أجزاء الدماغ لينبثق وعيًا واحدًا للكائن، تنطلق النظرية من مسلمات وتركز على قياس الوعي، بل تقيس مدى ما ينتجه النظام متجاوزًا مجموع أجزائه لمعرفة مستوى التوحّد الناتج من تكامل الأجزاء، وتعتمد في تفسيرها على طريقة توزّع الخلايا العصبية على شكل عناقيد تعالج كل منها المعلومات بطريقة محددة وتوصل الروابط بينها المعلومات.

تحاور صديقان قبل ربع قرن حول الوعي، وهما الفيلسوف ديفيد تشالمر وعالم الأعصاب كريستوف كوخ، وذلك في أمسية صيفية من سنة 1998، كانا يتفقان على أن الوعي نتاج نشاط عصبي، لكن نقطة الخلاف بينهما هو في الزمن الذي سيحتاجه العلم لكشف الرابط بين النشاط العصبي والوعي، كان تشالمر مشككًا في إمكانية كشف تفاصيل الرابط قريبًا، أما كوخ فكان متفائلًا بأن يكون ذلك خلال فترة لا تتجاوز ربع قرن، عقد الصديقان رهانًا، وفي منتصف عامنا هذا خسر كوخ رهانه، ولكنه ظل متفائلًا فعقد رهانًا جديدًا مع صديقه الفيلسوف واثقًا بأن العلم سيكشف الرابط خلال خمس وعشرين سنة قادمة تنتهي في عام 2048، وبغض النظر عن الزمن الذي سيحتاجه العلم لكشف لغز الوعي، فإن الفكرة من أن تجتمع ملايين الذرات التي كانت قبل دهور أزلية جزءا من نجم ما لتشكل خلايا عصبية، ثم تنتج بتواصلها مع بعضها ظاهرة الوعي لتدرك ذاتها هو أمر آسر ومدهش.

صالح الفلاحي - كاتب عماني