أنساغ.. عربة تتهادى بالذكريات: «الأموات» بين قلم جيمس جويس وكاميرا جون هيوستن «6 من 9»

18 يونيو 2023
18 يونيو 2023

يقول هيوستن: «أحاول أن أكون مخلصا قدر إمكاني للمادة التي اخترتها للأفلمة» (29). ولذلك فإن هذا «الإخلاص» متوقع، وخاصة في اقتباس «الأموات» التي يصفها هيوستن نفسه بأنها «واحدة من أعظم القصص باللغة الإنجليزية» .(30) بيد أن زعم هيوستن «الإخلاص» لا ينبغي أن يؤخذ بحرفية أو أخلاقية زائدة عن حدها، وبالتأكيد فإن قوله «قدر إمكاني» يأتي بمثابة تقييد مهم لزعمه كي لا تؤخذ الإفادة بحذافيرها؛ ذلك لأن في عملية التحويل النوعي للكلمات إلى الشاشة فإن الأمر بطبيعة الشيء نفسه ينطوي على درجة معينة من «اللاإخلاص». ولذلك فإن الشأن يتحول من الإطلاق إلى الدرجة النسبية والتناسبية في مقارنة العمل الناتج بجوهر العمل الأصل، لا بتفاصيله. إنني أعتقد بأهمية هذا التمييز بين «الجوهر» و»التفاصيل»، وذلك لأن الشأن الكبير والتقدير البالغ الذي حظيت به «الأموات» إنْ في الأدبيات النقدية المكتوب بالإنجليزية أو في الأكاديميا الغربية على وجه العموم سيجعل المقارنة بين النص الأصلي والاقتباس السينمائي لذلك النص محفوفة بالمخاطر وشبيهة بـ»المقارنة بين التفاح والبرتقال» كما يشير القول الشعبي الأمريكي ويحذر. بمعنى آخر، فإن هناك توقعات لاواعية (وفي بعض الحالات، للأسف، واعية) أن الفيلم يجب أن يكون «مماثلا» للنص الأدبي المقتبس. وتلك التوقعات، التي أسميها «الحرفانية الطهرانية» (puritan literalism) قصيرة النظر، وتتغاضى بشكل فادح عن الفروق بين السرد الأدبي والسرد السينمائي كما في قراءة مارك فلب Mark Phillip للفيلم ومصدره (31). لكن المؤكد هو أن ليا باشلر Lea Bachelor وأي والتن لتز A. Walton Iitz يمثلان رأي أغلبية النقاد في قولهما إن إخراج هيوستن «يعكس اهتماما متفحصا للنص، وحتى حين يفترق عنه الفيلم» (32).

ومع ذلك، فإنه من المؤكد أن هناك بعض الفروق بين الرواية القصيرة والفيلم، وينبغي تبينها. فلنتأمل، على سبيل المثال، أن حضور فْردي مالنس أكبر في الفيلم عنه في الأصل الأدبي. وفي هذا السياق فإن الفيلم يضيف مشهد الحمام الذي يساعد فيه غابرييل مالنس في استعادة توازنه وتماسكه قبل الانضمام إلى الحفلة. أعتقد أن هذا المشهد قد أضيف ليري التباين بين دبلنيين: غابرييل النكد ومتعكر المزاج من جهة، ومالنس المنتشي والمبتهج من جهة أخرى. وفي توسيع حضور مالنس فإن أمه تعرب لغابرييل عن خشيتها من أن ولدها لن يتزوج أبدا. من الممكن فهم هذه الإضافة بأنها تعليق لماح على أن غابرييل، في الحقيقة، ليس «متزوجا» من غريتا: إنه يمتلكها فحسب، أو إنه يعتقد ذلك، حيث لا عاطفة حقيقية يتبادلانها. والحقيقة أن ما يضاف إلى ذلك هو الشعور بحس رومانسي متنام بين بارتل دارسي والآنسة أوكالاهان في مصادفة الشروع الممكن بالحب ولاحقا، في ما يخص غريتا، مصادفة التذكار الموجع بالحب. ويضاف إلى ذلك أيضا ردة فعل الخالة جوليا على مائدة العشاء بترديد الدعاء المسيحي الذي يدعو الرب إلى المباركة. وإنني أتفق هنا مع رتْشرْد غربر Richard Gerber في أنه «لو كان جويس قد أراد ذلك فإنه سيكون في النص بالتأكيد» (33). لكن هذا الوجدان الديني الذي لا أعتقد أنه يليق بالمتمرد جويس، لا ينبغي فهمه على أنه الهمس بالحالة العقلية المسالمة لفنان يموت؛ ففي وقت إخراج الفيلم كان هيوستن يعيش احتضاره نتيجة لمرض انتفاخ الرئة، وقد توفي في يوم الجمعة، الثامن والعشرين من أغسطس 1987 قبل فترة وجيزة من العرض الأول للفيلم أيضا في يوم الجمعة، الحادي عشر من ديسمبر 1987. ولعله ينبغي التذكير بأن جويس كان في الخامسة والعشرين من العمر حين كتب «الأموات» بينما كان هيوستن في الحادية والثمانين حين أخرج الاقتباس السينمائي للعمل.

وتقدير هذه اللمسة الأوتوبيوغرافية الوداعية هو ما يجعلني ميالا إلى الاتفاق مع ما يقدمه غربر حول تعديل سينمائي آخر، وهو أن الحوذي صامت بالكامل تقريبا في نص جويس. بكلمات أخرى، وفقا لإنصات غربر، يصبح الحوذي، في الفيلم، «حكاءً مثل كارون المراكبي الذي، [في الميثولوجيا الإغريقية]، أحضر الأموات عبر نهر ستاكس أو شيرون إلى [آلهة الأموات] هيديز». ويتأمل غربر على نحو عميق في احتمال أنه «بطريقة غريبة ما تبدو هذه الشخصية الذابلة [وهي «من غرب إيرلندا»] كما لو أنها جون هيوستن وقد [كتب] نفْسه في الفيلم» (34). وثمة أيضا فروق طفيفة أملتها حركة تطور وتبدل المعاني الضمنية والصريحة النشطة بصورة خاصة في اللغة الإنجليزية كما في مثال واحد على الأقل؛ وهو عبارة «الصحاب المبتهجون كثيرا» “jolly gay fellows”) في الأصل الأدبي) التي أصبحت «الصحاب الطيبون كثيرا» (“jolly fine fellows”) في النسخة السينمائية حيث إن مفردة “gay” كانت تعني «المبتهج» أو «الجذل» في إنجليزية الزمن الذي كتب فيه جويس نصه (العقد الأول من القرن العشرين)، بينما صارت الكلمة تعني «المثلي الجنسي» في إنجليزية الوقت الذي أخرج فيه هيوستن فيلمه (العقد الثامن من القرن العشرين).

------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:

(29): اقتبس في:

Tim Pulleine, “A Memory of Galway,” Sight and Sound 57 (1987-88): 67.

(30): اقتبس في:

Brian Baxter, “The Dead,” Films and Filming, December 1987: 24.

(31): انظر:

Mark Phillip, “Narrative Devices and Aesthetic Perception in Joyce’s and Huston’s “The Dead,”” Film/Literature Quarterly 1 (1993): 66.

(32): Lea Bachelor and A. Walton Litz, “John Huston, Director: The Dead,” James Joyce Quarterly 4 (1988): 521.

(33): Richard Gerber, John Huston, Director: “The Dead,” James Joyce Quarterly 4 (1988): 529.

(34): Richard Gerber, “John Huston, Director: “The Dead,” 530.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني