العلاقات الخليجية الأمريكية.. ماذا يحدث على رقعة الشطرنج؟!
لا يكاد يخلو مقال كُتب عن منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية من طرح سؤال حول مستقبل العلاقات السياسية بين دول الخليج العربية وأمريكا، هل ما زالت راسخة كما كانت منذ خمسة عقود أم أنها تأثرت بحركة الرمال في الجزيرة العربية!؟
وهو سؤال مهم، على أية حال، والإجابة عنه قد تفضي إلى فهم بعض مسارات التحولات التي تحدث في العالم عموما وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص. ويزيد هذا السؤال أهمية عندما نطالع التقارب الكبير الحاصل بين الدول العربية، ودول الخليج منها خصوصا، والصين، وبدء ربيع تطبيع العلاقات العربية مع إيران الذي كان متوترا جدا مع بعضها منذ أربعة عقود كما هو الحال مع مصر، ومنذ سبع سنوات، على الأقل، كما هو الحال مع المملكة العربية السعودية التي أعادت مؤخرا علاقاتها الكاملة مع إيران، وعندما نطالع أيضا، التحولات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية منذ نقل سفارتها إلى القدس.
ما كان لهذا السؤال أن يسيطر على أذهان الكثيرين لولا أن ثمة تشظيا في العلاقات الخليجية الأمريكية خلال العقد الماضي، كان من الوضوح بأن شاهده الجميع، وما كان لدول الخليج أن تفتح مسار علاقات متينة جدا، اقتصادية وعسكرية، مع الصين لولا أنها متيقنة من أن الشريك الأمريكي بدأ في تغيير استراتيجياته في الشرق الأوسط وخاصة بعد أن أصبحت أمريكا تملك احتياطيات كبيرة من النفط الصخري، وبدء اعتماد العالم على الوقود الأخضر.
هذه المقدمة مهمة لقراءة البيان الختامي الصادر عن الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي بعد اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الأسبوع الماضي مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الذي حمل الكثير من الإشارات التي تدعم أهمية طرح سؤال العلاقات المستقبلية بين أمريكا والخليج، ولكنه في الوقت نفسه يعطي مؤشرات، يمكن قراءتها من البيان، إلى أن مفاتيح العلاقات الخليجية/ الأمريكية لم تعد بيد الولايات المتحدة الأمريكية وحدها توجهها حيث تشاء.. بل إن دول الخليج باتت تمسك بالكثير من مفاتيح تلك العلاقة وتستطيع تحريكها أو على الأقل التلويح بها في لحظة الحقيقية التي تتشكل في وسط كل التحولات التي يعيشها العالم في الوقت الراهن.
يكشف البيان، والبيانات تخفي أكثر مما تبين، عن تفاؤل لكنه حذر جدا، حول مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة.
وإذا كان البيان قد أكد بدءا على «الأهمية الاستراتيجية للعلاقات التاريخية» بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة والتأكيد على الالتزام المشترك بتعزيز التعاون في كافة المجالات، فإن هذه الجملة عامة جدا في الإطار الدبلوماسي بين الدول، ومطروحة في كل اللقاءات الثنائية بين الدول أو بين المجموعات الدولية ولا تنال من قريب أو بعيد من مسار العلاقات الخليجية الجديدة مع الصين، بل إن التذكير بها في هذا السياق، يمكن أن يحمل دلالة عكسية، مفادها الخوف من تزعزع تلك العلاقات رغم تاريخيتها.
لكن يصبح فهم مستقبل تلك العلاقات بين الطرفين أكثر صعوبة حينما يؤكد البيان على «حل الدولتين» على حدود يونيو 1967 وأن القدس الشرقية عاصمة لفلسطين! فهل هو تراجع أمريكي عما تغير في هذا السياق منذ أن نقلت الولايات المتحدة سفارتها إلى القدس في عهد الرئيس ترامب! ورغم أن هذا التأكيد ليس جديدا لكنّ تضمينه في هذا البيان الذي يريد التأكيد على «تاريخية العلاقات الخليجية الأمريكية» مهم جدا خاصة أنه تضمن اعترافا أمريكيا جديدا بمكانة مبادرة السلام العربية في سياق حلحلة القضية الفلسطينية. إنه تقدم يحسب لدول مجلس التعاون الخليجي وخاصة التي رفضت الانضمام إلى الاتفاقيات «الإبراهيمية» في نهاية عهد الرئيس ترامب وبداية عهد بايدن الذي ما زال يؤمن بأهمية تلك الاتفاقيات ويضغط من أجل استكمالها عربيا. ولعل في كل هذا بناء أرضية جديدة لعودة المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية أمريكية خليجية.
لكن الأهم من كل ذلك هو غياب أي إشارة صريحة إلى التطبيع العربي مع إسرائيل، خاصة أن بلينكن لم يخفِ طموحه يوما، وحتى في المؤتمر الصحفي الذي أعقب الاجتماع، في تعزيز العلاقات بين الدول العربية والخليجية بشكل خاص وبين إسرائيل، وبشكل خاص المملكة العربية السعودية التي يبدو أنها تمسك بأوراق القوة في علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية وهذا ما نفهمه من التسريبات التي نشرتها جريدة واشنطن بوست أمس الأول حول تهديدها برفع أسعار النفط. الواضح الآن أن دول الخليج العربي، عدا دولة الإمارات والبحرين، غير مستعدة لأي علاقات مع إسرائيل دون نهاية عادلة للقضية الفلسطينية تتضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وما يشير إلى أن دول مجلس تمسك بمفاتيح القوة في تحديد مسارات علاقتها خارج إطار العلاقات الخليجية الأمريكية هو موقف البيان من التقارب السعودي الإيراني! هذه وقفة مهمة تحتاج إلى الكثير من التأمل. فلا يمكن عمليا أن تفرح الولايات المتحدة أن السعودية طبعت علاقتها مع إيران، وبوساطة صينية أيضا، لكن يمكن أن نفهم هذه الإشارة من زاوية إيمان الولايات المتحدة أن الرياح التي تهب على المنطقة آخذة فعلا بالتحول، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية أن تتحرك وفقا لأوراق اللعبة الجديدة في المنطقة. وهذا الأمر يمكن فهمه أيضا في ضوء ترحيب البيان المشترك بالعلاقات الخليجية/ والعربية مع سوريا.. لكن الغريب أن البيان الذي يدعم الحل السياسي في سوريا يؤيد الوجود العسكري الأمريكي فيها!
أما الجديد كليا فهو أن البيان لم يكشف عن انحياز إلى صف الولايات المتحدة والغرب في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، أو بعبارة أكثر وضوحا بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. كان البيان محايدا جدا في هذا السياق واكتفى بالتركيز على فكرة السلام والبعد الإنساني للحرب، متجنبا أي إدانة مباشرة لروسيا، وفي هذا رسالة واضحة للغرب وبشكل خاص للولايات المتحدة.
اعتقد أن وزير الخارجية الأمريكية عاد من الخليج برسائل لم يكن يتوقعها، من بينها أن دول الخليج لن تكون في صفه في صراع بلاده من أجل تثبيت قواعد النظام العالمي الحالي، ويتعين عليه وعلى بلاده موازنة مصالحها مع دول الخليج العربي في منطقة لا تزال تشهد تغيرات جذرية هي امتداد لكل المتغيرات التي يشهدها العالم. لقد فهم أنتوني بلينكن أن دول الخليج لديها استعداد كبير لرسم مسارها الخاص واتخاذ خطوات حاسمة على «رقعة الشطرنج» تعكس مصالحها وواقعها، والتقارب السعودي الإيراني والصمت عن التطبيع العربي الإسرائيلي دليل على ذلك. وعلى أمريكا والغرب ترقب الحركة القادمة على نفس «رقعة الشطرنج».
عاصم الشيدي رئيس التحرير
