واقع الباحثين عن عمل
واقع الباحثين عن عمل ((Job Seekers يكتسب أهمية كبيرة في البرامج الحكومية ودلالة ذلك التوجيهات السامية المتمثلة في إنشاء البرنامج الوطني للتشغيل. هذا البرنامج يهدف إلى معرفة التحديات التي تواجه تشغيل العمانيين في القطاع الخاص، والعمل على تذليل تلك التحديات من خلال برامج تشغيل مستدامة وجاذبة بالقطاع الخاص.
فمع الجهود المقدرة من وزارة العمل في مجال التشغيل، إلا أن الإحصاءات تشير إلى أن نسبة الأيدي العاملة الوطنية بالقطاع الخاص تراجعت بنسبة (1.7%) حسب بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات الصادرة في شهر أبريل (2023م)، هذا التراجع يتسق مع ارتفاع عدد الباحثين عن عمل والذي يقدر بنحو (110) آلاف باحث مقارنة مع (85) ألف باحث في نهاية أكتوبر(2022م)، الأرقام السابقة من الوهلة الأولى تعطي دلالة عن ارتفاع مؤشر الباحثين عن العمل (Unemployment Rate) ولكن من الصعوبة قياسه من إجمالي القوى العاملة في سوق العمل أو من عدد السكان، بسبب عدم وجود قاعدة بيانات إحصائية دقيقة تعطي مؤشرات تبنى عليه السياسات أو الخطط الاستراتيجية الخاصة بالتشغيل. وقد يكون من أسباب ذلك عدم توحيد رقم العاملين في القطاعين الحكومي والخاص، وأيضا هل يدخل عدد العمانيين الذين يعملون في القطاعات غير الحكومية للوصول لرقم موحد للعدد الكلي للعمانيين العاملين في الدولة. عليه فإن التوجه الجديد هو ما حدث من التوحيد والتكامل في الهياكل التنظيمية للتشغيل بإنشاء وزارة مختصة بالعمل وتوحيد القوانين والتشريعات المتعلقة بالتوظيف وتقييم الأداء الوظيفي والتقاعد كلها سوف تسهم في إيجاد نظام معلومات متكامل يساعد في بناء سياسات تشغيل مرنة وفي إيجاد نظام متابعة يسهل الحصول على التغذية الراجعة لمتخذي القرار الحكومي في تحديد الفجوات والعمل على حلها.
في المقابل هناك ارتفاع مستمر في الأيدي العاملة الوافدة لتصل إلى (1.7) مليون حتى نهاية شهر أبريل (2023م)، وبالتالي القول بأن العامل الاقتصادي الذي يضع سلطنة عمان في فئة «الاقتصادات الصغيرة الحجم» يحتمل رأيين: الرأي الأول، إن ذلك غير دقيق، ومرده الارتفاع المستمر في توظيف وجلب الأيدي العاملة الوافدة على اختلاف فئاتها، وهناك ارتفاع مستقر نوعا ما لسعر النفط الذي يعتبر العامل الأكبر في ضخ الاستثمارات، وفي التوسع في تنفيذ المشاريع التنموية. والرأي الثاني، إن وصف سلطنة عمان ضمن الاقتصادات الصغيرة، سببه أن نمو أعداد الأيدي العاملة الوافدة يحدث جله في المؤسسات الخاصة التي وصل عددها إلى (221.5) ألف مؤسسة بنهاية العام الماضي، والتي تحتضن ما يقرب من (1.68) مليون عامل وأسهمت في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة صغيرة بلغت (11.59) مليون ريال عماني. كما يدعم ذلك أن المؤسسات الصغرى بلغت (191) ألفا، وأسهمت في الناتج المحلي بما يقرب من (865) ألف ريال عماني خلال الفترة نفسها. هذه الأرقام تدل على التوسع في أعداد المؤسسات الخاصة والصغرى ولكن برؤوس أموال صغيرة مع استحواذها على العدد الأكثر من الأيدي العاملة الوافدة، التي أغلبها غير وطنية.
عليه، فإن ما يحدث من ارتفاعات مستمرة لعدد الباحثين عن العمل وما يصاحبه من ارتفاع الأيدي العاملة الوافدة، قد يكون نتيجة غياب الفكر الاقتصادي خلال الحقب الماضية، وتشتت السياسات المتعلقة بالتشغيل من خلال التذبذبات المستمرة في تحديد الحد الأدنى للأجور من (140) ريالا في التسعينيات إلى (385) ريالا خلال هذه الفترة، مع عدم وجود معايير اقتصادية لما هو الحد الأدنى المناسب الذي قد يحظى بالقبول من مؤسسات القطاع الخاص التي هدفها الربح، وأيضا الرضى من العاملين الذين يحلمون بمستقبل أفضل من الوظائف، والتدرج في سلم الرواتب حسب الخبرات والمؤهلات وفئات العمل المختلفة. وبالتالي فإن القطاع الخاص لم تصل إليه إشارات واضحة ودقيقة بأنه لا مفر من التعمين لوقف الحجج التي يأتي بها كل حين وهي أن الأيدي العاملة الوافدة هي الأرخص والأقل في معدل الدوران الوظيفي، وأن الوضع الاقتصادي لا يساعد في التعمين برواتب تتوافق مع ما يحصل عليه الموظف بالقطاعات الحكومية.
كما أن مسألة الباحثين عن العمل يجب أن ينأى بها عن العواطف وأن يتم الاعتراف في حال وجود ضعف في المخرجات التعليمية مع متطلبات سوق العمل. ونعطي مثالا لذلك، فإن تصريح أحد مسؤولي وزارة العمل خلال الشهور الماضية، والتي أشار فيه إلى أن هناك ضعفا في مخرجات التعليم، الذي حاولت الوزارة تداركه لاحقًا لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقه قبل سنوات تصريح مماثل من أحد المسؤولين، بأن بعض المخرجات الجامعية لا تستطيع كتابة رسالة باستخدام البريد الإلكتروني باللغة الإنجليزية، عليه فإن التصريحات الأخيرة لم تجد آذانا صاغية من أغلب مؤسسات التعليم العالي، حيث يرى الأكاديميون أن مخرجات مؤسساتهم تمتلك القدرات والمهارات اللازمة، التي يحتاج إليها سوق العمل، الأمر الذي يعطى انطباعا في الاختلاف بين تقييم مؤسسات التوظيف الناتجة من الدراسات ونتائج المسوحات الوطنية عن مهارات التشغيل المطلوبة، وبين ما تدعيه المؤسسات التعليمية. مع إنه يفترض أن تقابل تصريحات المسؤولين بنوع من الإيجابية والتحليل العلمي الذي يساعد في معرفة الفجوة بين احتياجات القطاع الخاص وبين نوعية ونمط الكفايات والمهارات لمخرجات التعليم التي قد تحتاج إلى إعادة نظر في مناهجها الدراسية.
في المقابل، فإن القطاعات التي يحس فيها المواطن بعدالة الأجر مقابل العمل أو تكافؤ الأجر مع الظروف المعيشية من تلك القطاعات مثل البنوك والاتصالات وشركات النفط والغاز والشركات الحكومية ومؤسسات التعليم العالي الخاصة، والتي تعطي رواتب محفزة، فإنها تشهد إقبالا في تشغيل العمانيين، وبالتالي فإن نسبة التشغيل بها عالية. وبذلك يلاحظ ارتفاع عدد الأيدي العاملة الوطنية في القطاع الخاص للذين يتقاضون أجورا بين (500) ريال إلى أقل من (2000) ريال شهريا بنسب متفاوتة. في المقابل فإن الشركات الصغيرة والمتوسطة لا تستطيع مواجهة ما تتطلبه بعض الوظائف من الاستمرارية الشهرية في دفع أجور العمال، وأيضا التدرج في السلم الوظيفي، وبالتالي هناك تذبذب في التشغيل بهذه الشركات، حيث انخفضت أعداد الأيدي العاملة الوطنية التي تتقاضى رواتب بين (325 إلى أقل من 500) بنسب متفاوتة بين مارس (2022م) ومارس (2023م)، حسب بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات.
ولعله من التأثيرات السلبية الناتجة في غياب الاستراتيجية الوطنية للتشغيل بأنه قد يتم تأجيل البت في صرف منفعة الباحثين عن العمل المضمنة بقانون الحماية الاجتماعية. وقد يكون لهذا التأجيل الأسباب الكثيرة منها، إن غياب الاستراتيجية سوف يؤدي إلى استمرار الفترة الزمنية التي تصرف عنها هذه المنحة، وضعف الهمة في البحث عن العمل، والأهم هي التداعيات الناتجة عند وقف صرف المنحة في حال أن الباحث عن العمل لم يجد عملا خلال الفترة الزمنية أو لم تناسبه الوظائف التي تعرض عليه. مع ذلك فإن قانون العمل المنتظر صدوره قريبا، يتأمل أن يضع تشريعات قانونية على مسائل تتعلق بالتسريح من العمل، ومعايير تحديد الحد الأدنى للأجور، والتكامل مع أنظمة التشغيل في القطاعات الإنتاجية الأخرى. إلا أن قانون العمل قد لا يكون مولدا لوظائف جديدة، وإنما يعمل على تحديد الكفايات والمهارات التي تحتاجها وظائف العاملين بالقطاع الخاص. هذه المهارات تكتسب نوعا من التغيير من فترة إلى أخرى طبقا للتقدم الصناعي والتكنولوجي، ومن ذلك فإن وظائف المستقبل تتركز على مهارات استخدام تقنيات الثورة الصناعية الرابعة وتقنيات إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، وبالتالي يجب أن تكون البرامج الأكاديمية متوافقة مع تلك التغييرات المستمرة.
نختم القول أن مسألة الباحثين عن عمل، وزيادة أعدادهم تعتبر قضية تحتاج إلى إطار وطني تكاملي، حيث ينتظر من البرنامج الوطني للتشغيل أن يعمل بوتيرة أكثر انتشارًا من الناحية الجغرافية والمناطق الاقتصادية والمحافظات، وأيضا أن يكون الإطار الوطني للمؤهلات متكاملا مع المسارات التعليمية التي تحدد مخرجات التعلم من الكفايات والمهارات العلمية التي يحتاج إليها سوق العمل.
