العصيان والسِتْرُ «3»: المعرفة تذكُّرٌ

25 أبريل 2023
عتبات النقد
25 أبريل 2023

من أجمل البدايات التي استهلّت بها الأعمال السرديّة العربيّة ما افتتح به طه حسين سيرته الذاتية «الأيّام»، عاقدا بداية تكوّن الخطاب السرديّ بانْقداح الذاكرة، وبإجهادها وحثّها على التذكّر، خروجا من الأنا الآن وهنا، فعل الكتابة وتكوّن الحكاية، إلى الأنا الماضي وهناك، فعل التذكّر الذي يتفتّح تدريجيّا، وهو هيكل السيرة وقوامها. لا تتفتّح الذاكرة بيسر في كتاب الأيّام، وإنّما يظْهر الخطاب عنتا ومعاناة في سبيل التحوّل من ترجيح الذاكرة إلى يقين التذكّر، وكأنّ الكهل (طه حسين الكاتب المتحقّق) يجتهد في استحضار صورة الفتى الذي كأنه في قديم الزمن، يدعوه من عمق الوعي بالتذكّر ويحْضر منه ما يريد أن يحكيه لا ما يجب أن يحْكى.

النصّ البدئيّ في كتاب «الأيّام» مثال للبدايات الحكائيّة التي يبئّر فيها الكاتب حالة الدخول في الكتابة، يقول فيه طه حسين: «لا يذْكر لهذا اليوم اسما، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه، وإنّما يقرّب ذلك تقريبا. وأكبر ظنّه أنّ هذا الوقت/ يرجّح ذلك لأنّه يذكر/ ويرجّح ذلك لأنّه على جهله حقيقة النور والظلمة/ يكاد يذكر/ ثمّ يرجّح/ وإذا كان قد بقي له من هذا الوقت ذكرى واضحة بيّنة لا سبيل إلى الشكّ فيها، فإنّما هي ذكرى هذا السياج الذي كان يقوم أمامه من القصب/ هو يذكر هذا السياج كأنّه رآه أمس، يذكر أنّ قصب هذا السياج كان أطول من قامته/ ويذكر/ ويذكر/ يذكر هذا كلّه، ويذكر/ ثمّ يذكر..»، وللقارئ أن يلاحظ تكرار فعل التذكّر وتنقّل الكاتب من انحسار التذكّر إلى ترجيح التذكّر إلى يقين التذكّر، حتّى تنساب الذكريّات وتتكوّر السيرة الذاتيّة التي بناها طه حسين صورة عن حياته التي كانت. الذكريّات هي عالم السيرة الذاتية، وعلى النقد أن يدرك أن الذكريّات ليست الواقع، وإنّما هي تمثّل المتذكّر لأحداث وقعت له وثبّتها في ذهنه على أنّها وقائع وحقائق، عالم السيرة الذاتيّة هو عالم التخييل الذاتي، خصيصته أنّ الذات المتذكّرة هي محور السرد، وأنّها مرّت بوقائع عديدة في مسار حياتها، بعضها سقط ودخل حيّز النسيان، وبعضها انغرس في اللاوعي ينتظر حافزا ليبدو في أشكال وألوان، وبعضها ظاهر مرافق لهذه الذات، قابع في وعيها، وهو الحيّز الذي عبّر عنه صاحب سيرة ذاتية ثانية من عالم بعيد، مختلف، هو ميشما في «اعترافات قناع»، يقول: «إلى هذا الوقت على وجه التقريب تعود أقدام ذكرياتي، ذكرى لا يعلق بها تساؤل، ما انفكّت تطاردني بصورة نابضة بالحياة ومتوهّجة على نحو غريب».

هؤلاء كتّاب ومنهم الكثير، وقفوا في لحظة من الزمن بعد أن راكموا إنتاجهم الأدبيّ لتذكّر الذات وروايتها، وهم الذين امتلكوا تقنيات الحكاية وخبرة الرواية. في مسلك ثان هناك من كانت السيرة الذاتية هي بداية الرواية، تحوّلا تدريجيّا من التسجيل إلى التخييل، الكاتب العماني محمد بن عيد العريمي هو مثالنا في بداية الكتابة صدورا عن السيرة الذاتية، إذ يتمهّل عقدين من الزمن حتّى يتذكّر، حتّى يتصالح مع ذاته، ويقدر على تحويلها من آهة ومن خيال بارق ومن همّ ملازم، إلى خطاب أدبيّ قابل للقراءة والتفاعل. محمد بن عيد العريمي من القلائل الذين بدأوا حياتهم الأدبيّة بوازع كتابة السيرة الذاتية، الرغبة في حكاية حكايته بعد الحادث الذي غيّر من مسار حياته ونقله من عالم الأرقام والأشكال إلى عالم اللّغة والتخييل، من عالم بعيد في الظاهر، قريب في الأصل والجوهر إلى فضاء التخييل، يدخل محمد بن عيد العريمي الكتابة، الكتابة التي أصبحت جوهرا عنده، وملاذا لحكاية ذات يرى صاحبها أنّها قابلة لشدّ جمهور يرغب في التعلّم من تجارب البشر أوّلا، ويستحسن تخييل الذات، إذ تخرج من العالم العينيّ، عالم الحدوث الفعليّ إلى عالم لغويّ، عالم الحدوث تخيّلا وتمثّلا. لم يكن محمد بن عيد العريمي بالكاتب الروائيّ الذي أراد أن يختم حياته بتسجيل حكايته الخاصّة، وإنّما هو قادم من عالم مناقض لعالم الرواية، يستهلّ فعل الكتابة بالسيرة الذاتية، وهو من الندْرة الذين عهدتهم قد نفذوا إلى عالم الرواية من باب السيرة الذاتية. حادث جلل عطّله عن مواصلة المسار العمليّ الذي اختاره، وأعاقه عن الحركة فأوْجد لنفسه عالما أرحب وفضاء أخْصب وحياة في الكلمات وفي التجوال في التخييل، بدأ متذكّرا بعد صحْوه في الحياة، وإدراكه أنّه لم يعد من كان عليه، فانفتح له باب الكتابة في السيرة، فسايره وسار في ركابه، فكان كتبه التي يعْرض فيها لقصّة رجل تحوّلت حياته ومصيره وصلاته، يقول في نصّ جميل واصفا ما حدث له في الرحلة الأخيرة التي ودّع فيها كائنا واستقبل كيانا آخر: «وبعد عشرين عاما من الصراع المتواصل مع الإعاقة وتداعياتها المختلفة على الجسد والنفس، قررت أن الوقت حان للبوح، وإطلاع الآخرين على ماذا يعني أن يجد الإنسان نفسه فجأة وقد فقد الإحساس في معظم جسده، ولم يعد يقوى على حكّ أنفه، متوقفا عند المفاصل الأساسية من تجربتي، ودوّنت ما اعتقدت أنه يخدم هذه المحاولة دون التطرق إلى ما لا يضيف إليها شيئا. وقد يعزى تأخري في الكتابة عن تجربتي إلى الخوف من استعادة تفاصيل أيام هي الأسوأ في حياتي، لا سيما تلك الأيام المرتبطة بمعاناة السنوات الأولى، الأكثر ألـما، الأكثر ترسّخا في ذاكرتي». يعيد محمد بن عيد العريمي ذاكرة مشحونة، وأحداثا ترسّخت في عمق وعيه ولكن لا ينْظر إلى وقائعها بمنظور الرجل الذي كان، بل بمنظور الرجل الذي صار، منظور مشحون بالألم والمعاناة والتذكّر المفزع، الحادثة المتمثّلة في اصطدام مع جملين، يستعيدها المتذكّر بكلّ تفاصيلها، حياة المستشفيات، صارت الحياة في ذكراه قائمة على منطقتين للسرد، منطقة السعادة ما قبل الحادث، ومنطقة التعاسة، آن الحادث وما تولّد عنه من عميق الإحساس. لقد استطاع الرجل أن يحوّل المأساة إلى إبداع، إلى تذكّر لوقائع كان يعيشها ويكتفي بأن تمرّ دون أن يتمعّن فيها أو أن يرويها، أن يمتلك شريطا من الماضي فيه تحوّلات وحيوات أرادها أن تروى، في «مذاق الصبر»، في «بين الصحراء والماء»، في «حزّ القيد»، وفي أعمال لاحقة اتّخذت شكل الرواية بيد أنّ الذات فيها متشظيّة. ينبعث محمّد بن عيد العريمي -على نقيض أغلب الكتّاب- من مجال السيرة الذاتيّة ليتحوّل تدريجيّا إلى روائيّ بذاكرة ممتلئة. وختاما يمكن أن نقول على لسان سقراط: «المعرفة تذكّر والجهل نسيان».