الحوكمة... أحد مكونات القوة الناعمة العمانية
منذ صاغ جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، والذي تولى منصب مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، مصطلح القوة الناعمة، في كتابه «مقدرة القيادة» الصادر في عام 1990م، والذي عرفها أنها قدرة أي دولة على التأثير في محيطها الإقليمي والدولي، بعيدا عن القوة العسكرية وسطوة المال، من خلال قوتها المعنوية المتمثلة في الأفكار والمبادئ والأخلاق، واحترام حقوق الإنسان، والتسامح والسلام وقبول الآخر، وتميزها في مجالات الثقافة والفن، لدرجة تجعلها تحوز احترام وإعجاب الشعوب الأخرى، وتجعل هذه الشعوب تسعى بالتالي إلى اتباع مصادر هذه القوة والاقتداء بها ومحاولة الاقتراب منها.
وأصبحت القوة الناعمة اليوم غاية أساسية تتنافس الدول على تعزيزها، من أجل كسب العقول وتأليف القلوب، وتحييد سلوك الشعوب، عن طريق أدوات وأشكال ناعمة، منها الدبلوماسية النشطة، وعقد الملتقيات وتنظيم المؤتمرات لتوسيع دوائر التعاون المشترك، وإنشاء التحالفات السياسية، وإبرام الاتفاقيات الاقتصادية، في مسعى من الدول لتحسين سمعتها وتعزيز مكانتها إقليميا وعالميا، والذي ينعكس بالإيجاب على سياساتها الخارجية، عندما تنجح في توسيع دائرة الشركاء، وتصفير الخلافات.
وسلطنة عمان تمتلك الكثير من مقومات القوة الناعمة؛ من خلال الموقع الجغرافي الفريد، وجمعها بين الأصالة والمعاصرة، وانتهاجها سياسة خارجية مستقلة، حافظت عليها منذ انطلاق مسيرة النهضة الحديثة، التي قادها المغفور له السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ طيب الله ثراه ـ في عام 1970، والذي أسس لمدرسة الدبلوماسية العمانية، التي حرصت على إقامة علاقات طيبة مع الدول الشقيقة والصديقة في المنطقة وحول العالم، باتباع سياسة خارجية ناضجة، بعيدا عن الانفعالات وردود الأفعال المنفلتة، دبلوماسية تستند إلى العلم والبحث والتحليل والقراءة الواعية للأحداث، والاستفادة من دروس التاريخ، تنشر الخير والسلام وتنأى عن الصراعات والحروب، وتدعو للتفاهم وحل الخلافات عن طريق الحوار والاحتكام لمائدة المفاوضات.
وتستمد القوة الناعمة العمانية زخمها، من إسهامات العمانيين في التراث العربي والإسلامي، سواء كان ماديا أو غير مادي، فنجد في اللغة والأدب الخليل بن أحمد الفراهيدي مخترع علم العروض الذي تقاس عليه الأوزان الشعرية، والعالم الجليل أبي منذر العتبي مؤلف الموسوعات المتعددة في الأنساب واللغة، والعلامة نور الدين السالمي الشاعر والمؤرخ والفقيه المجدد، وأحمد بن ماجد رائد الملاحة البحرية في القرون الوسطى، بجانب الكثير من التراث المادي الذي أبدعته أيادي العمانيين، متمثلا في تشييد المساجد والقلاع والأسوار التاريخية، والبيوت والحارات الأثرية، و الأفلاج العمانية بتصميمها الهندسي الفريد، الذي جعلها صامدة تعمل على نقل المياه لري الزراعات حتى الآن.
ورغم الدور البارز الذي تقوم به الدبلوماسية العمانية في تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية، من خلال جهود السفارات والقنصليات العمانية في الخارج، إلاّ أن سلطنة عمان لم تحصل على نصيبها العادل حتى الآن من الاستثمارات الخارجية ولا من حصيلة السياحة الدولية، الذي يتناسب مع المقومات الطبيعية والبشرية التي تمتلكها عمان؛ من موقع جغرافي فريد وشواطئ بكر ممتدة تطل على الخليج العربي والمحيط الهندي، وتوسطها طرق التجارة والملاحة الدولية التي تربط آسيا بأفريقيا وأوروبا، وإنسان عماني متحضر ومتعلم، تربى على حسن استقبال الضيف، وقبول الآخر دون النظر لجنسه أو لونه أو ديانته.
الأمر يحتاج منا، الاستفادة من هذه القوة الناعمة، في الترويج لسلطنة عمان اقتصاديا، عن طريق التعريف بالتسهيلات والحوافز التي استحدثتها الحكومة لجذب الاستثمار الأجنبي، وتقديم عروض مرئية للبنية الأساسية الراقية من طرق ومطارات وموانئ حديثة ومرافق خدمية، تغطي وتربط كافة أجزاء سلطنة عمان، كما على بعثاتنا الدبلوماسية في الخارج مضاعفة جهودها في الترويج للمقاصد السياحية العمانية، وتسويق سلطنة عمان كواحة للهدوء والأمن والاسترخاء، وسط منطقة مضطربة تمزقها الحروب والصراعات. وفي حقيقة الأمر، هناك قوة ناعمة أخرى، عزز من دعائمها جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- وجعلها ركنا أساسيا في رؤية عمان المستقبلية 2040، قد لا يدرك أهميتها الكثير من الناس، ألا وهي «الحوكمة»، فسلطنة عمان تعتبر من أوائل الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي انتهجت مبادئ الحوكمة، ووصلت إلى مكانة متقدمة، تمثلت بتضمينها في النظام الأساسي للدولة وفي القوانين والتشريعات، وتأسيس مركز متخصص في هذا المجال هو مركز عمان للحوكمة والاستدامة.
وفي رأيي أن الحوكمة، تعد أحد مكونات القوى الناعمة العمانية، لما تحققه من فوائد على المستويين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فالحوكمة ضمانة أساسية لتحقيق النزاهة وإقامة العدل والمساواة، وترسيخ مبدأ الشفافية والمساءلة والمحاسبة، وهي المؤشرات الأساسية التي تسهم في استقطاب رؤوس الأموال وتحسين السمعة الدولية للبلاد، بل في حقيقة الأمر يمكننا تسخير «الحوكمة» والاستفادة من مبادئها وأحكامها في تعزيز ما نمتلكه من مصادر القوى الناعمة المتعددة، ولكن هذا يتطلب منا أخذ خطوات صارمة وجريئة من أجل تحقيق النتائج والأهداف المرجوة منها وإلا ستبقى مجرد فلسفة متداولة ومتغنى بها لا أكثر، وهذا الحال ينساق على باقي القوى الأخرى.
وهناك شروط ومحددات، نستطيع من خلالها استغلال القوة الناعمة العمانية الاستغلال الأمثل، ولكن هذا يتطلب منا أولا: التحلي بالكثير من الإيجابية، ولا مانع من بعض الجرأة والحسم والوضوح، والثقة بالنفس عند التعامل مع الآخرين، سواء كانوا من جيراننا وأشقائنا العرب، أو من الشعوب الصديقة، دون التخلي عن الخصال الأصيلة التي تميزنا، من طيبة وكرم وتواضع، ودون تنازل أو تفريط في حق من حقوق الوطن والمواطن، أو المساس بفرصنا في التنافس الشريف.
ثانيا: استحداث مؤسسة أو هيئة ـ أيا كان المسمى ـ تعنى بتنمية القوة الناعمة العمانية والاستفادة القصوى من مفرداتها، وترجمة هذه الميزات النسبية التي تنفرد بها سلطنة عمان، إلى قوة ونفوذ في المحافل والمنظمات الدولية، سواء من خلال دعم مواقف سلطنة عمان السياسية في المحافل الدولية، أوالترشح للمناصب الدولية والإقليمية بالمنظمات التابعة للأمم المتحدة ـ اليونسكو واليونيسف والفاو ومنظمة الصحة العالمية، ونمتلك ـ ولله الحمد ـ كفاءات وكوادر علمية في كافة التخصصات قادرة على المنافسة والإدارة، كما علينا عدم الاكتفاء بالتواجد داخل الهيئات الرياضية الدولية والإقليمية، بل الترشح والمنافسة على مقاعدها الرئيسية، فماذا ينقصنا لعضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا» أو رئاسة أحد الاتحادات الآسيوية في إحدى اللعبات الرياضية، ونشاهد اليوم رؤساء اتحادات دولية وقارية، ينتمون لدول صغيرة، لا تمتلك جزءا ولو يسيرا من مصادر القوة الناعمة التي نمتلكها.
السيد حامد البوسعيدي المدير التنفيذي لمركز عمان للحوكمة والاستدامة.
