نوافذ.. التضورُ جوعا تكفيرا عن الخطايا

04 ديسمبر 2022
04 ديسمبر 2022

يحتاج الناس إلى معجزة ما لانتشال أنفسهم من اليأس والهزيمة، كما قد يحتاجون إلى قصّة جيدة يصدقونها بتفانٍ شديد، "فنحن لا شيء بدون القصص، ولذا ندعوك لتؤمن بهذه القصة"، هكذا يبدأ فيلم "The Wonder"، المستمدة أحداثه من رواية الكاتبة الإيرلندية إيما دونوغيو وإخراج سباستيان ليليو.

تُستدعى الممرضة "ليب رايت" من قبل لجنة مُشكلة من شيوخ القرية في عام 1862، لمراقبة فتاة صغيرة تدعى"آنا أودونيل" تقطنُ في قرية إيرلندية نائية، حيث تُقرر الفتاة أن تصوم عن تناول الطعام دون أسباب واضحة. ولذا فقد كانت لجنة شيوخ القرية تبحثُ عن تأكيدات حول الفتاة التي تُوشك على أن تغدو قديسة منتظرة.

لكن المفارقة تكمن في استدعاء ممرضة وراهبة لمراقبة الطفلة، حيث تبقى كل واحدة منهما معها لنصف يوم، وكأن العلم والإيمان يتناوبان على مراقبة تشكل المعجزة الصغيرة!

كان عليهما المراقبة وحسب، فيما لو كان ثمّة طعام يعبر من هنا أو هناك إلى فم الطفلة. هنالك أيضا طرف ثالث علينا ألا نغفل عنه، صحفي يُدعى "ويليام" لم يكن قادرا إلا على إثارة الشكوك حول هذه القصّة، بينما تُصرُّ الأمّ "روزالين" على أنّ ابنتها لا تمارس الخدع.

نحن كمشاهدين نلعب الدور نفسه الذي تلعبه الممرضة، أعني المراقبة، حيث يدور الفيلم حول فكرة الإيمان والشك، وكأن أحدهما يناقض الآخر. ولكن عندما تمنعُ الممرضة الأهل من الاقتراب من الفتاة، وتُمنَعُ الأمّ من إعطاء الابنة قبلة الصباح والمساء، فإن حالتها الصحية تتدهور!

وكلما سألتها الممرضة: "من أين تأكلين؟" كانت الطفلة تجيب: "المنّ من السماء".

هكذا تستمدُ المجتمعات قوتها، من صناعتها للأعاجيب، فمن المرجح أن يتوافد السياح والحجاج لرؤية الفتاة القديسة التي نجت من الموت رغم توقفها عن تناول الطعام لعدة أشهر.

لقد كان المخرج "ليليو" كما يبدو معنيا بمجاعة إيرلندا الكبرى أو مجاعة البطاطس الإيرلندية التي حدثت بين 1845م و1852م، والتي سببت وفاة مليون إنسان وهجرة مليون آخر.. تلك المجاعة التي "غيرت المشهد السكاني والسياسي والثقافي في أيرلندا إلى الأبد وأصبحت نقطة فاصلة في تاريخها".

لقد كررت لجنة الشيوخ أن مهمة الممرضة المراقبة فقط، لكن الممرضة كانت قد خرجت هي الأخرى من تجربة أليمة عندما فقدت ابنتها، كما خرج الصحفي من تجربة موت عائلته جوعا أيضا، فنحن أمام تاريخ مشترك يُؤجج التعاطف والخسارات، لذا لم يكن بإمكانهما أن يبقيا على الحياد أبدا، فثمّة فتاة تموت ببطء.

لذا كانت الممرضة - وعلى عكس الراهبة المستكينة - تفتشُ طوال الوقت عن مكمن الحيلة، فلم تكن تريد تأكيد معجزة أو نفيها، كانت تريد أن تحافظ على حياة الطفلة خارج الخدعة وحسب!

تقول الكاتبة إيما دنو غيو "تعرفتُ على ظاهرة Fasting Girl في منتصف التسعينيات، لقد تأثرتُ على الفور بهذه الحالات، والتي بدت وكأنها تعكس صدى قديسين في العصور الوسطى يتضورون جوعًا كفعل من أفعال التكفير عن الذنب.. وقعت الأحداث في إيرلندا، ليس فقط لأن هذا هو موطني، ولكن لأنّه ومنذ المجاعة الكبرى في أربعينيات القرن التاسع عشر، عرّفنا أنفسنا على أننا شعب على علاقة حميمة مع فكرة الجوع".

تساءلتُ عن الذنب الذي اقترفته الفتاة الصغيرة، تساءلتُ أكثر حول سلبية الأمّ التي لم يكن لديها أي دفاع عن حياة ابنتها!

نكتشف لاحقا أنّ الخرافة - الأكثر فظاعة - تعيشُ في ذهن الفتاة وتأكل قلبها، ولستُ هنا بصدد فضح حكاية الفيلم، إذ بقدر ما يبدو الصوم هنا اختياريا دون ضغوط خارجية بقدر ما نكتشفُ خبايا مظلمة تحت السطح البسيط للحكاية، فالفتاة تئنُ بداخلها من معتقدات غُرست في أعماقها، لقد كانت مستعدة لتسليم روحها لقاء التشافي من جراح ثخينة!

لقد قرأنا روايات عن الجوع من مثل: "الجوع" لكنوت هامسون، "جوع" محمد البساطي، وشاهدنا أفلاما من مثل "the hunger games"، لكن المختلف هنا أن يخرج الجوع من تصوراته المألوفة ليرتبط بسياقات دينية وبمعتقدات مُركبة حول الحياة وما بعد الحياة، حول الآثام والتكفير عنها.