خُرافة الحمامة والندم!

06 نوفمبر 2022
06 نوفمبر 2022

يرتفعُ الحاجزُ كاشفا عن وجبة طعام لحمامة مُحتجزة داخل قفص صغير، كلما رفعت جناحيها، ولذا ترفعُ الحمامة جناحيها مُجددا مُعلنة رغبتها في الحصول على الطعام، فلقد نجحوا في إيهامها أن رفع الجناحين يفتحُ الحاجز، الأمر الذي دفعها لتكرار الفعل مرات ومرات، وقد أُطلق على هذه التجربة "خُرافة الحمامة".

هكذا يبدأ فيلم Mr.Nobody، لمؤلفه ومخرجه جاكو فـان دورميل، بهذه الفكرة الصادمة، فالحمامة بدرجة ما تُحيلُ على وهم الإنسان أيضا، ذلك الذي يظنُ أنّه يقبضُ على مجريات أحداث حياته، وأنّه يُحدثُ التوتر الذي يُسفرُ عن ردات الفعل اللامتناهية، بينما ثمّة احتمالٌ آخر يلوح في الأفق، بأنّ الأمور لا تسير على هذا النحو.

لكن ماذا لو تسنى لأحدنا أن يُبدل خياراته؟ كلما اكتشف عدم صلاحية أحدها؟ ماذا لو تمكن من أن يُعيد الزمن مرات ومرات، ليُبدل كلمة أو فعلا، أو ليختبر تجربة أخرى؟ في الحقيقة هذا ما يحدثُ في فيلم Mr.Nobody، حيثُ تتناسل الاحتمالات، كل احتمال يُسفرُ عن شكل حياة كاملة مختلفة بصورة غير متوقعة عن الحكاية الأخرى.

فعبر حبكة مُعقدة وفلسفة ذائبة في نسيج الحكاية، يُقدم لنا المخرج ذلك البناء الفني العجيب الذي يجعلك تخوضُ خيارات البطل "نيمو"، في ثلاث مراحل عمرية مختلفة، فعندما كان طفلا طُلب منه أن يختار بعد انفصال والديه بين العيش مع والده أو والدته، وكان الأمر كابوسيا لطفلٍ في التاسعة من عمره!

لكن المخرج يُجازف لكي يُرينا الحياتين معا. في البداية أفلت "نيمو" يد والدته مُقررا العيش مع والده، ثمّ رأيناه في القطار في حضن أمّه، وكأن الكائن الصغير واليائس يتمتعُ بالمرونة الكافية للانشطار. ثمّ رأيناه شابا يُكابد مشقة الاختيار بين ثلاث نساء، تعرف على كل واحدة منهن في ظرف ما، فكانت كل واحدة منهن تقود حياته إلى توترٍ باهظ التكلفة بمسراته وأحزانه. ولقد رأيناه في المرحلة الثالثة كهلا تجاوز المائة عام بذاكرة مُشوشة مُنتظرا موته.

يتطلب هذا الفيلم انتباها كُليا، ليُعيد المشاهد ترتيب الحكاية والأسئلة الفلسفية العميقة، حيث تقع الأحداث في عام 2092، ويكون بطلنا "نيمو" قد تجاوز المائة عام، فيأخذنا لتأمل طفولته وشبابه.. حيث يعيشُ "نيمو" حيوات توازي عدد فرصه الممكنة.

أحد أسئلة الفيلم الأساسية: أنحن مسيرون أم مخيرون في أفعالنا وخياراتنا؟ ولقد انشغل التراث الإسلامي والفلسفة عموما بهذه الأسئلة وما تزال مطروحة حتى يومنا، فذهبت الجبرية إلى أن "الأفعال تُخلق كالكائنات"، بينما ذهبت القدرية إلى أن "الإنسان هو صانع أفعاله وأن علم الله المُسبق بالأمور لا يعني إجبار الناس على تنفيذ الفضائل أو الذنوب"، بينما وجد المعتزلة استحالة أن يُجبر الله عباده على أفعالهم، وإلا فلماذا يحاسبهم على خيرهم وشرهم؟ أما الأشاعرة فأرادوا التوفيق بين الجبرية والقدرية، فالإنسان حر في أفعاله لكن الله هو الذي يخلق سائر الأفعال، وهنالك العديد من التصورات والأفكار التي اختلف حولها.

إن أحد أكثر المشاعر التي قد تُرعبنا هي "مشاعر الندم" النابعة من إحساسنا باقتراف قرارات خاطئة، الندم بسبب خياراتنا وأفعالنا، في الدراسة والحب والزواج والإنجاب وطرق كسب المال.

تُلح علينا فكرة مُعذبة: "ماذا لو أننا ذهبنا للخيار الثاني أو الثالث؟ ماذا لو لم نخطو هذه الخطوة تجاه هذا الفعل؟! ما الذي يمكن أن يتغير؟!" لاسيما لو تأكدنا أن أبسط أفعالنا، ابتداء من كلماتنا، إيماءتنا، ابتساماتنا، وليس انتهاء إلى قراراتنا الأشد تعقيدا، هي التي تُعطي الدقائق والساعات وربما السنوات المقبلة من حياتنا، شكلا معنى وتصورات!

يمكن تلقي الفيلم على أكثر من صعيد، ولكن المذهل بالنسبة لي في هذا الفيلم، أنّه يقلل من حُرقة الندم، فجميع القرارات والأفعال التي تنقل البطل بين احتمالاتها -دون استثناء- كانت توفر له السعادة بقدر ما تضمر له البؤس والعذابات، وكأن الدرس المستفاد أنّ الحياة بكل خياراتها محفوفة بالآلام، وأننا جميعا "نيمو" الكائن التائه بين العلامات والاحتمالات والذي يعيش ربما "خُرافة الحمامة"!