دليل إضافي .. هذه حقا هي نهاية العالم!

19 أكتوبر 2022
19 أكتوبر 2022

ترجمة : أحمد شافعي -

على مدار العقد الماضي، خضعت صياغة السياسة العالمية خضوعا كبيرا لدول بادية القوة لا يتقيد قادتها بالقانون أو بالضوابط الدستورية. وقد ذهبت روسيا والصين إلى أن الديمقراطية الليبرالية في انحدار طويل المدى، وأن النسخة التي يتبعانها من الحكم القوي قادرة على العمل الحاسم والإنجاز بينما ينخرط منافسوهم الديمقراطيون في الجدل والتردد عاجزين عن الوفاء بوعودهم. وكان هذان البلدان في طليعة موجة استبدادية أوسع أدارت ظهرها للمكتسبات الديمقراطية في أرجاء الكوكب، من ميانمار إلى تونس إلى المجر إلى إلسلفادور. غير أنه بات واضحا، خلال العام الماضي، أن في صميم هذه البلاد القوية نقاط ضعف أساسية.

تتوزع نقاط الضعف هذه في نوعين. الأول أن تَرَكُّز السلطة في أيدي زعيم فرد على القمة يمثل ضمانا أكيدا لانخفاض الجودة في صنع القرار بما يثمره ذلك بمرور الوقت من عواقب كارثية بكل معنى الكلمة. والثاني أن غياب النقاش والجدال على المستوى العام في الدول «القوية»، وغياب أي آلية للمحاسبة، إنما يعني ضحالة التأييد الذي يحظى به الزعيم وإمكانية تلاشيه دونما إنذار مسبق.

على أنصار الديمقراطية الليبرالية ألا يستسلموا للقدرية التي تتقبل ضمنا النهج الروسي الصيني الذاهب إلى أن هذه الديمقراطيات في انحدار حتمي. فتقدم المؤسسات الحديثة على المدى البعيد لا هو خطِّي ولا هو أوتوماتيكي. ولقد رأينا ـ على مدار السنين ـ انتكاسات ضخمة تعرض لها تقدم المؤسسات الليبرالية والديمقراطية، فحدث هذا مع صعود الفاشية والشيوعية في ثلاثينات القرن العشرين، ومع الانقلابات العسكرية وأزمات النفط في ستيناته وسبعيناته. ومع ذلك، كانت الديمقراطية الليبرالية تبقى وترجع المرة تلو الأخرى، نظرا لسوء البدائل البالغ. فالناس على اختلاف ثقافاتهم لا يحبون أن يعيشوا في ظل دكتاتورية، ويقدِّرون حريتهم الفردية. وما من حكومة استبدادية تقدم مجتمعا أكثر جاذبية ـ على المدى البعيد ـ من الديمقراطية الليبرالية، فيمكن اعتبارها من ثم هدفا أو غاية للتقدم التاريخي [أي «نهاية للتاريخ» بحسب الترجمة الشائعة عربيا ـ المترجم]. وملايين الناس الذين يصوتون بالأفعال لا بالأقوال ـ إذ يرحلون عن البلاد الفقيرة أو الفاسدة أو العنيفة ليعيشوا لا في روسيا أو الصين أو إيران وإنما في الغرب الديمقراطي الليبرالي ـ مثال واضح على هذا.

قد صاغ الفيلسوف هيجل عبارة «نهاية التاريخ» ليعني بها صعود الدولة الليبرالية من خضم الثورة الفرنسية بوصفها هدفا أو وجهة يقصدها التقدم التاريخي. وعلى مدار عقود كثيرة بعد ذلك، سوف يستعير الماركسيون عبارة هيجل ويؤكدون على أن نهاية التاريخ الحقيقية هي اليوتوبيا الشيوعية. وحينما كتبت مقالة في عام 1989 وكتابا في عام 1992 متخذا لهما من هذه العبارة عنوانا، أشرت إلى أن النسخة الماركسية مخطئة خطأ واضحا وأنه لم يبد من وجود لبديل يعلو على الديمقراطية الليبرالية. ولقد شهدنا انتكاسات مريعة لذلك التقدم الديمقراطي الليبرالي على مدار السنوات الخمس عشرة الماضية، لكن الانتكاسات لا تعني أن السردية الأصلية خاطئة. فلا يبدو أن أيا من البدائل المعروضة أحسن حالا.

***

ولقد ظهرت نقاط ضعف الدول القوية جليةً في روسيا. فالرئيس بوتين هو صانع القرار المنفرد فيها، فحتى الاتحاد السوفييتي كان فيه مكتب سياسي ولا بد أن تدرس أمانة الحزب الأفكار السياسية. ولقد رأينا صورا لبوتين وهو جالس على طرف طاولة ضخمة مع وزيري الدفاع والخارجية لخوفه من كوفيد، فكان في عزلة تامة جعلته لا يعي مدى القوة الذي بلغته الهوية الوطنية الأوكرانية في السنين الأخيرة أو مدى شراسة المقاومة التي سيثيرها غزوه. وبالمثل لم يتلق أي معلومة عن مدى انعدام الكفاءة في جيشه هو، وإلى أي مدى تعمل الأسلحة التي قام بتطويرها، أو مدى سوء تدريب ضباطه.

تجلت ضحالة التأييد الذي يحظى به نظامه في مسارعة الشباب الروس إلى الحدود حينما أعلن «التعبئة العامة» الجزئية في 21 سبتمبر. فقد رحل قرابة سبعمئة ألف روسي إلى جورجيا وكازاخستان وفنلندا وأي بلد آخر رضي باستقبالهم، وذلك رقم أكبر كثيرا مما تمت تعبئته بالفعل. والذين وقعوا في أيدي التجنيد الإلزامي سيقوا سوقا إلى المعركة دونما تدريب كاف أو معدات، ويظهرون بالفعل على الجبهة إما أسرى أو ضحايا. لقد كانت شرعية بوتين تقوم على عقد اجتماعي وعد المواطنين بالاستقرار وببعض الازدهار في مقابل السلبية السياسية، لكن النظام أخل بالاتفاق وها هو يسشعر العواقب.

لقد أفرز سوء عملية اتخاذ القرار لدى بوتين وضحالة التأييد الذي يحظى به أحد أكبر الأخطاء الاستراتيجية الفادحة في ذاكرتنا الحية. فبدلا من أن تظهر روسيا عظمتها الإمبراطورية المنبعثة، إذا بها موضع سخرية عالمية، وسوف تتعرض للمزيد على أيدي أوكرانيا في الأسابيع القادمة. فكامل الجيش الروسي المنتشر في جنوب أوكرانيا في طريقه المرجح إلى الانهيار، ولدى الأوكرانيون فرصة حقيقية لتحرير شبه جزيرة القرم للمرة الأولى منذ عام 2014. وقد أثارت هذه الانتكاسات قدرا هائلا من توجيه أصابع الاتهام إلى موسكو فيمعن الكرملين في حملته على المعارضة بمزيد من القسوة. وليس بمعروف بعد إن كان بوتين نفسه يمكن أن ينجو من هزيمة عسكرية روسية.

ويجري في الصين، منذ فترة، أمر مماثل، وإن يكن أقل دراماتيكية. فقد كانت الفترة الصعبة ما بين إصلاحات دينج شياوبنج سنة 1978 وتولي شي جينبنج السلطة في 2013 تتمثل في درجة المأسسة. والمؤسسات تعني أن على الحكام أن يتبعوا قواعد وأنه ليس بوسعهم أن يفعلوا ما يحلو لهم. لقد فرض الحزب الشيوعي قواعد كثيرة على نفسه منها أعمار للتقاعد الإجباري لكوادر الحزب، ومعايير جدارة صارمة للتعيين والترقّي، وأهم من ذلك كله تحديد فترة عشر سنوات لأرفع مناصب الحزب القيادية. ولقد أقام دينج شياوبينج نظاما للقيادة الجماعية أراد به تحديدا اجتناب سيطرة زعيم مفرد استحواذي مثل ماو تسيدونج.

وكثيرا من هذا تبدد في ظل حكم شي شينبينج الذي سينال مباركة حزبه للبقاء قائدا أعلى لفترة خمس سنوات ثالثة خلال المؤتمر العشرين للحزب. وبدلا من القيادة الجماعية انتقلت الصين إلى نظام شخصي لا يستطيع فيه أي مسؤول كبير آخر أن يقترب من تحدي شي جينبنج.

هذا التركيز للسلطة في يدي رجل واحد أدى بدوره إلى فقر في عملية اتخاذ القرار. فتدخل الحزب في الاقتصاد، معيقا قطاع التكنولوجيا باتباعه نجوما من قبيل علي بابا Alibaba وتينسنت Tencent، وأرغم المزارعين الصينيين على زراعة محاصيل خاسرة جريا إلى تحقيق الكفاية الذاتية الزراعية، وأصر على استراتيجية صفر كوفيد التي تبقي أجزاء كبيرة من الصين في حظر مستمر نال كثيرا من نقاط النمو الاقتصادي للبلد. وليس بوسع الصين أن تنقلب على استراتيجية صفر كوفيد، لأنها فشلت في شراء اللقاحات الفعالة بما يجعل قسما هائلا من سكانها كبار السن معرضين لخطر المرض. وهكذا فإن ما بدا قبل عامين باعتباره نجاحا مؤزرا في السيطرة على كوفيد تحول إلى مأزق طويل الأجل.

كل هذا يأتي فضلا عن إخفاق نموذج النمو الصيني الأساسي الذي قام على استثمار الدولة الكثيفة في العقارات للحفاظ على ازدهار الاقتصاد. وأوليات الاقتصاد تقول إن من شأن هذا أن يفضي إلى سوء تخصيص للموارد، وهذا ما حدث في واقع الأمر. وابحثوا بأنفسكم في الإنترنت على «تفجير المباني الصينية» [Chinese buildings being blown up] وسترون بأعينكم في فيديوهات كثيرة مجمعات سكنية هائلة يجري تفجيرها بالديناميت لعدم وجود من يشتري شققا فيها.

وإذن فالاحتفاءات بصعود الدول القوية وانحدار الديمقراطية الليبرالية سابقة كثيرا للأوان. فالديمقراطية الليبرالية ـ لأنها على وجه التحديد توزع السلطة وتعتمد على رضا المحكومين ـ في وضع أفضل كثيرا مما يتصور الكثيرون، وذلك في العالم كله. وبرغم مكتسبات حديثة حققتها أحزاب شعبوية في السويد وإيطاليا، فإن أغلب بلاد أوروبا لم تزل تنعم بدرجة قوية من التوافق الاجتماعي.

وتبقى علامة الاستفهام الكبيرة الماثلة هي، للأسف، الولايات المتحدة. فقرابة 30 إلى 35% من الناخبين فيها لا يزالون يؤمنون بسردية كاذبة مفادها أن انتخابات 2020 الرئاسية سرقت، والحزب الجمهوري بات خاضعا لأنصار ترامب ودعوة «إرجاع عظمة أمريكا من جديد» وهؤلاء يبذلون أقصى ما في وسعهم لوضع منكري الانتخابات في مواقع السلطة في طول البلاد وعرضها. وهذه المجموعة لا تمثل أغلبية في البلد لكن من المحتمل أن تستعيد السيطرة على مجلس النواب على أقل تقدير في نوفمبر القادم، وربما تفوز بالرئاسة في 2024. لقد انغمس الرئيس المفترض للحزب، أي ترامب، بعمق كبير في جنون نظريات المؤامرة فبات يؤمن أن بالإمكان إعادته فورا إلى الرئاسة وأن البلد لا بد أن يدين أسلافه الرئاسيين إدانة جنائية، ومن أولئك الأسلاف من مات بالفعل.

ثمة رابط وثيق بين نجاح الدول القوية بالخارج والسياسات الشعبوية بالداخل. فالسياسيون من أمثال ماري لو بان وإريك زيمور في فرنسا وفكتور أوربان في المجر وماتيو سالفيني في إيطاليا وطبعا ترامب في الولايات المتحدة قد أعربوا جميعا عن تعاطف مع بوتين. وهم يرونه نموذجا لحكم الرجل القوي الذي يودون أن يمارسوه كل في بلده. وهو بدوره يرجو أن يضعف صعودهم التأييد الغربي لأوكرانيا وينقذ «العملية العسكرية الخاصة» التي قام بها من الفشل.

لن ترجع الديمقراطية الليبرالية ما لم يعزم الناس على الكفاح من أجلها. لكن المشكلة أن كثيرا ممن كبروا في أحضان السلم والرخاء في الديمقراطيات الليبرالية باتوا يعتبرون هذا الشكل من الحكم أمرا مسلما به. ولأنهم لم يعرفوا قط الطغيان الحقيقي، فهم يتخيلون أن الحكومات المنتخبة ديمقراطيا التي يعيشون في ظلها هي أيضا دكتاتوريات آثمة تتواطأ من أجل سلبهم حقوقهم، سواء أكانت هذه الحكومة هي الاتحاد الأوروبي أم الإدارة في واشنطن. لكن الواقع يتدخل. إذ يشكل الغزو الروسي لأوكرانيا دكتاتورية حقيقية تحاول سحق مجتمع حر الجوهر بالصواريخ والدبابات، فقد يكون هذا تذكرة للجيل الحالي بحقيقة ما يوجد على المحك. ومن خلال مقاومة الإمبريالية الروسية، يظهر الأوكرانيون الضعف الجسيم الموجود في صميم دولة بادية القوة. هذا الشعب يفهم قيمة الحرية الحقيقية، ويخوض معركة هائلة بالنيابة عنا، معركة لزام علينا جميعا أن ننضم إليها.

فرانسيس فوكوياما فيلسوف سياسي واقتصادي مؤلف كتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير».

عن «ذي أطلنطيك» ترجمة خاصة بجريدة «$».