"الخُرّاج البارد ذو الأطراف الباهتة"

14 أغسطس 2022
نوافذ
14 أغسطس 2022

شاهدتُ الأمّ وهي تضع المزيد من الفلفل في طبقي طفليها، وكلما تذمرا من حدّة الطعم أضافت الأمّ المزيد من الفلفل، فلقد قامرت بصحة طفليها لقاء رفع نسبة المشتركين في القناة. لم يكن هذا إلا مشهدا ضئيلا من الممارسات العبثية التي تمارس على الأطفال في شتى أنحاء العالم، حيث تغدو حياتهم ويومياتهم.. ضحكاتهم وبكاؤهم متاحا للجميع، كأنّهم مجرد دُمى للتسلية والتهريج!

شاهدتُ أمًا أخرى تصور حزن ابنها على وفاة كلبه المفضل، ولم يكن راغبا في التصوير، لكنها دفعته لذلك دفعا -كما ظهر في الفيديو غير المُمنتج- وفي مقطع آخر يلتقط الأهالي ردة فعل ابنهم عقب سماعه لخبر وفاة جدّته، من مبدأ تسليع مشاعر الطفل تحت سياط الأهل الراغبين في جعل أحداث شديدة الخصوصية مثل "الحزن" مشاعة بين الناس، فمن المؤكد أنّ مقطعا من هذا النوع سيجني تعاطفا هائلا من المشاهدين، وبالتالي سيجني المال!

لقد عبّر بعض الأطفال عن انفعالاتهم بكلمات لا نستطيع الجزم فيما لو كانت كلماتهم حقا أو أنّهم لقنوا إياها من قبل ذويهم النهمين إلى رفع عوائدهم المالية. علق ابني آنذاك بالسؤال: "هل ثمّة فارق بين الطفل الذي أجبر قديما على العمل في المناجم وطفل اليوم الذي يُجبر على إبداء مشاعر زائفة في قناة؟!"

ولو صدقنا ما قاله عالم النفس فرويد: "يكون الإنسان الصغير مُنْتَجا في سن الرابعة أو الخامسة، مما يعني أنّه في سنواته اللاحقة لا يفعل سوى أن يكشف تدريجيا عمّا كان بداخله سلفا"، فمعنى ذلك أننا على فوهة جحيم من الخسارات، ولا أعني صُناع المحتوى وحسب، قدر ما أعني الشريحة العظمى من الأطفال المتجمدين وراء شاشاتهم لمشاهدة هذا النوع من العطب!!

لسنا ضد قنوات يظهر فيها الأطفال، لسنا ضد قدر من المرح والعفوية، ولكن التسطيح سيأخذ أولادنا لطرق مسدودة، ولنا فقط أن نتصور أن تكون قناة اليوتيوب الأكثر متابعة عربيا - والتي يتابعها ما يزيد على ٣٦ مليون مشترك- هي قناة فتاة صغيرة، تقدم محتوى قائما على تحديات عبثية هزيلة! وليس لنا أن نلوم الأطفال، فهم ضحايا الأضواء الباكرة التي يدفعهم إليها الآباء والأمهات بدم بارد!

وأسأل: هل علينا أن نقلق من سيل التفاهة اليومية التي يتعرض لها أولادنا أم علينا أن ننظر لها ضمن سياق العصر الجديد؟ "فكلما نُقع الفن في الحياة اليومية، قلّت حمولته من القيم الروحية، كلما تعمّم البعد الجمالي، ظهر أكثر فأكثر كاكسسوار لا هدف له سوى تنشيط الحياة العادية.. زركشتها، وجعلها حسية".

تروج أغلب هذه القنوات لألعاب ومنتجات باهظة الثمن، فيظهر الأطفال مُحاطين بعالم متكامل من الألعاب، فيظن الطفل المشاهد أنّ حياته غير طبيعية وغير مكتملة بألعابه القليلة تلك! جيل تكسب من وراء سياقه الشرائي الشركات الكبرى، بينما يُقيّم الوالدين ضمن نمط استهلاكي بحت!

بتنا نرى جيلا منطويا على نفسه يقطن في فجوة زمنية بين واقع حياته والحياة الأخرى المُصممة لاجتذابه، فعندما تسأل طفلا الآن: "ماذا ستصير يوما؟"، فلا تتعجب لو قال: سأنشئ منصة بث، وعندما تسأله عن محتواه، سيكركر ضاحكا، فذلك آخر همه!

في كتاب "نظام التفاهة" لآلان دونو، ترجمة وتعليق مشاعل الهاجري، يُعرج على هذا السؤال الحاد: هل نحن أمام الأميين الجدد الذين على درجة من التأثير والخطورة؟ فكما قال ت.س.اليوت: "العلم لا ينتج الثقافة إلا في حدود ضيقة"، أم هل نحن أمام مأساة "ترميز التافهين"، أي تحويلهم إلى رموز، حيث يظهر لنا تافهي السوشال ميديا والفاشينستات بمظهر النجاح، بينما المجتمع الذي ينتقدهم ليل نهار، ويفسد حياتهم بأشكال من التنمر والاستعداء، هو نفسه تماما الذي يصنع منهم أيقونات!

من الأكيد أن فلوبير جوستاف لم يكن ليتكهن بحجم التفاهة التي نعيشها الآن جوار دينمو العلم ونقلاته السريعة، ولكنه تجرأ وخاطب التفاهة قائلا لها: "إنكِ لستِ بالغرغرينا، بل أنتِ ضمور عضوي، لستِ بالالتهاب الساخن للأزمنة المحمومة، أنتِ الخُرّاج البارد ذو الأطراف الباهتة، يقطرُ كما النبع الذي يجد مصدره في تجويف تسوس عميق".