«لا أسوأ من جهل نشط»

27 مارس 2022
27 مارس 2022

بذلتُ جهدًا خرافيًا في جزر الديمانيات، كي لا تلحظ قبيلة السلاحف البحرية ذهولي لحظة اقترابي منها، وهي منغمسة في تناول حصتها الصباحية من الأعشاب. مضيتُ بينها بخفة مُحركة زعانف مطاطية في قدمي، ومطبقة بين أسناني على أنبوب الهواء، في تجربة فريدة لرؤية عالم مخفي، يتكسرُ الضوء الصباحي كالمرايا في تموجاته.

في ذلك العمق تذكرتُ أن«الجمال ليس حكرًا على قصيدة جيدة ولا رواية فاتنة، ولا فيلم آسر ولا موسيقى عذبة، يمكننا أن نعثر على الجمال في الطبيعة أيضًا»، ولكن الكتب -أعني تلك المكتوبة برهافة نادرة لتُعيد شحذ علاقتنا بالكون والحياة- المترجم منها قليل فما بالك بالمكتوبة باللغة العربية!

في هذه الرحلة كنتُ ممتلئة بكتاب «تراتيل ثعابين البحر» للكاتب السويدي باتريك سفينسون، الصادر عن دار المنى، فجوار قصة والده الذي يرصفُ الطرق وتفوح منه رائحة القطران، هنالك قصة عن ثعابين البحر التي أثارت مشاعر غامضة كل من التقى بها، ذلك الكائن الذي أسدل ـ على طريقة تكاثره ـ ستارًا من الظلام، عذب العلماء لعدة قرون.

كان أرسطو أول من وثق سوء فهمه لثعابين البحر لكنه لم يكن الأخير. فالإناث هي المعروفة آنذاك، ولم يُعرف من أين جاء الذكور! فادعى أرسطو أنها تنبثق من الطين. لقد تحول الأمر لمشهد شعبي في ألمانيا، حيث عُرضت مُكافأة بقيمة خمسين مارك لمن يستطيع الحصول على ثعبان بحر يحمل البيوض، فوصلت إلى البريد مئات الثعابين المتعفنة التي تضج بالطفيليات. يقول فرويد ساخرًا: «لا تحتفظ ثعابين البحر بمذكرات تتحدث فيها بشأن جنسها»، لقد فحص فرويد 400 ثعبان بحثًا عن الأعضاء المسؤولة عن تكاثرها، بعد أن «التقط القفاز الذي ألقاه أرسطو قبله بألفي عام».

في مصر القديمة تعاملوا معها كشرٍ عظيم وكانت طعاما ممنوعا، وفي روما كان أحد القادة يلقي بالعبيد في بركة مليئة بها. لا تظهر ثعابين البحر كثيرًا في الأدب والفن ولكن في رواية «الطبل الصفيح» لجونتر غراس يذكرها كنذير للمأساة وكمحرض لها على حد سواء.

يوهانس شميدت الذي أبحر عام 1904 واهبًا حياته لهذا اللغز لسنوات طويلة، باحثًا عن مسقط رأسها كتب: «تختفي ثعابين البحر المُسنة وتقذف لنا ثعابين جديدة صغيرة»، فكيف لتلك اليرقات الصغيرة أن تعبر في تيار المحيط القوي حتى تتكاثر؟

وبينما أشقُ الماء بذراعي بحثًا عن السلاحف تهيأ لي رؤية أحدها فاقشعر جسدي. كنتُ أفكر في الدافع الذي قاد العلماء لتحدي اللغز، وإفناء حياتهم وراء كائن هامشي أقصى أمجاده أن يفرّ من صياديه الراغبين بجعله ضمن أطباق المائدة! ولعلي أستعير ما قاله سفينسون:«وكأنّي كلما عرفتُ ثعبان البحر عرفتُ نفسي أكثر! »

تذكرتُ أيضا كتاب «أشكال لا نهائية في غاية الجمال»، تأليف شون كارول، فهو أيضًا حول سؤال حير الإنسان منذ داروين وحتى أحدث العلماء. تبدأ متعة القراءة مع الأسئلة التي اقترحها كبلنغ في قصصه من قبيل: من أين جاء الجمل بحدبته وكيف اكتسبت بعض الحيوانات رقطتها؟ ومن أين استلهمت أفلام الرعب قصصها حول الكائن الذي يعيش بعين واحدة في منتصف الرأس؟

لعدّة قرون ظن العالم أنّ الأشكال اللانهائية من الكائنات تعني أشكالا لا نهائية من الجينات، ولكن العلماء وجدوا تماثلات مذهلة بين ذبابة الفاكهة وعدد مهول من الكائنات. بدت تلك الجنيات مثل قطع البازل، ويالدهشة.. نستطيع أن نُركب منها ديناصورا أو ذبابة!

ولنا أن نتصور وجود أنماط لا نهائية من الألوان والحكايات في الطبيعة، فالجنيات تعلمتْ على مدى ملايين السنين العديد من الحيل والألاعيب لتنتخب الشكل الأكثر ملاءمة لحياتها.

قد يبدو ذلك شاعريًا، لكن الشاعرية لا تنفصل عن العلم، بل تمنحها المعنى. وكما يبدو فثمة تلاحم بين تصوراتنا الشخصية وبين العالم المخفي الذي تفصلنا عنه 7 ملايين من السنوات، الذي نتماسُ معه اليوم عبر الأحفوريات.. تلك «الوحوش بالغة القدم».

لكن السؤال الأبعد: كيف نمنحُ العلوم فتنتها ولذتها كقصيدة خلابة تُزيح ظلمة الجهل؟ أخذا بنصيحة غوته: «لا أسوأ من جهل نشط»