نوافذ .. من ينقذ قرى أسلافنا؟ !
"كانت قريتنا متماسكة في الثمانينات وبداية التسعينات، ولو أنّ الجهات المسؤولة بادرت مُبكرا بترميمها لوفروا علينا جهدا ومالا يربو على 80% من المجهود الذي نُكابده اليوم، لكن أحدا منهم لم يلتفت لها بعد مغادرة السكان الأصليين، فتُركت نهبا للأيدي العاملة الوافدة والقوارض!"، هكذا مضينا نستمعُ للشاب سليمان السليماني والذي رغم حداثة سنه، إلا أنّنا لمسنا غيرته على الحارة التي تربى وركض بين أزقتها، "حارة العقر" بولاية نزوى.
قطعنا برفقة السليماني السكيك الضيقة ومضينا نتعرف على حكاياتها المُخبأة، وكأن قدر الأشياء وصحوة الأفكار تأتي متأخرة دائما ومن مبادرة أفراد!
تأكلنا الحسرة لمجرد تصورنا بوجود مساجد ومنازل عُمانية بالغة القدم هُدمت لإعادة بنائها بطراز حديث، فحتى هذه اللحظة لا يوجد مقاولون مُتخصصون في مسائل ترميم المباني القديمة -إلا من رحم ربي- ولذا فقد استعانوا بخبرة كبار السن ممن لهم دراية بالبناء القديم وتفاصيله.
قلّما يتسنى لولاية ما قد تسنى لولاية نزوى، حيث السوق يجاور القلعة والقلعة تجاور حارة العقر. قلعة استمر بناؤها 12 عاما، ومسجد الشواذنة بُني في السابعة للهجرة، ومسجد المزارعة يعود إلى القرن الثالث الهجري، وقبور الأئمة والعلماء. الأبراج والمساجد والأفلاج، ويحيط بالقرية سور متين، وتدللُ الشواهد على أنّ حارة العقر موجودة قبل الإسلام.
الأساطير الجاذبة والحكايات تُعطي المكان بُعدا فلسفيا، في مشهد سينمائي وثائقي لتاريخ الإنسان العُماني في حقب مختلفة، لكن الاكتمال المُبهر تُرك نهبا لمآزق الزمان!
يُذهلك النجار الذي ما أن يُنجز تحفته الآسرة حتى يترك بيتا من الشعر يُدلل فيه على تاريخ إنجاز العمل وفي زمن أي حكام من الحُكام. ثمّ يأتي الجهلة ويرشون على هذه الأبواب أصباغهم القاتلة لأسباب تافهة دون حسيب أو رقيب!
يُذهلك السور العظيم الذي يمتد لـكيلومترين، وسمكه لمتر ونصف المتر وارتفاعه يصل لستة أمتار، وعليك أن تتخيل أنّه يُغلقُ كل ليلة، فلا يسمح بدخول ولا خروج. ويُرجح بناؤه في زمن الإمام الصلت بن مالك الخروصي، لكنه تأثر بالأودية سنة 853 للهجرة، فجاء الإمام سلطان بن سيف اليعربي، فصارت له مداخل مُحددة وأبراج حماية، وقد رُمم من السور 300 متر فقط وتبقى 1700!
تُذهلك الأفلاج التي تشفُ عن صلابة الأجداد، ويحار العقل عندما تقف أمام "ساعة المدة" التي تقيس نصيب الفلاحين من الماء بدقة متناهية. لقد شاهدنا بأعيننا فتحات تصريف مياه الأمطار بين الحارات، حيث تجري المياه أسفل المنازل فتصب ببراعة في حقولهم.
ولفتتني فكرة "الأوقاف" التي تُوقَفُ لترميم المساجد والمدارس أو توهبُ لتعلم الفقراء أو لإقامة المكتبات، فقد يخصص أحدهم نخلة أو حصّة ماء أو غرفة في بيت من أجل هذه النوايا الطيبة. ويخبرنا السليماني قائلا: "تصل أنواع الوقف إلى 70 نوعا في العقر، ويقوم الوكيل الأمين بضبط هذه المهمة".
للبيوت أيضا حكايات خفية، فقد مررنا بالقرب من مستشفى تومس، الذي أرسله السلطان سعيد بن تيمور لعلاج الإمام محمد بن عبدالله الخليلي عندما أصيب بالعمى، فشفي على يديه.
الداخل العُماني ليس منكفئا على نفسه، فهو متآلف مع الآخر منذ قديم الزمان، ورغم الظروف الصعبة التي تُمتحن فيها البلاد، إلا أنّ الجهات المسؤولة تمارسُ بيروقراطيتها، مُتناسية أنّ مشاريع من هذا النوع يمكنها أن تفتح بيوت أسر كثيرة، ويكفي أن أضرب مثالا على الطعام الذي تذوقناه من الأيدي العُمانية المجاورة.
الفكرة التي أنقذت حارة العقر كانت إنشاء الشركة الأهلية "البوارق"، التي لملمت شمل الأهالي في القرية، وقد تمّ ترميم 26 بيتا حتى اللحظة منذ بدء العمل سنة 2017، "الإنجاز الذي نراه الآن مشدوهين لا يتعدى 10%، وهنالك قرابة 300 بيت في الانتظار، إضافة إلى مساجد ومجالس وما تبقى من السور، والتكلفة تقترب الآن من مليون ريال عُماني".
نحن نشعر بالحسرة إزاء أماكن تمكنت من إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فماذا عسانا نقول عن القرى التي ذهبتْ أدراج الرياح دون أن يتحرك لها جفن واحد؟!
