نوافذ.. قشعريرة الجناح المعوج

06 مارس 2022
06 مارس 2022

نحنُ أيضا عبرنا تجارب مُشابهة يوما ما، كان لنا كُتابٌ وممثلون وفنانون مُفضلين في سن باكرة من حياتنا. وفي وقت معزول عن التكنولوجيا راسل بعضنا تلك الشخصيات التي كانت تُؤثرُ بالوجدان وبتصوراتنا للحياة، مراسلة واقعية أو متخيلة.

نحن أيضا لم نكن مثاليين وأذهلتنا أسماء كُتابٍ كانوا بالنسبة لنا كنجوم الصف الأول. تباهينا أنّنا نقرأ لهم، ونقتبسُ من كلماتهم، وعندما كبرنا ضحكنا على أنفسنا لفرط ضحالتنا آنذاك.

كنا ننجذبُ للكتب ذات الطابع البوليسي أو قصص الرعب التي تحبسُ الأنفاس، وقصص التعذيب في الأقبية السرية، ربما لم يحدث الأمر مع الجميع بطبيعة الحال، ولكنه ميلُ الراغبين بمغامرة شائقة، حتى وإن كانت لا تعدو الخفقان الآني، أو لا تعدو كسب الانتباه ذلك الذي وصفته الفيلسوفة سيمون فايل بأنّه "أندر وأنقى أشكال الكرم الإنساني".

سجلنا على دفاترنا المدرسية أسماءهم واقتطفنا من كتاباتهم ما ظننا أنّه سيُضيئ أرواحنا إلى أبد الآبدين. البعض منا علّق بوسترات أشرطة الأغاني المُفضلة في غرفته، ووضع على رفوف مكتبته تلك المجموعات المتسلسلة الفاتنة آنذاك، وكنا في ثورة المشاعر الصاخبة التي تضجُ بنا نُصارع تقلبات رغباتنا وأحلامنا، إمّا بحرية مُشرعة أو برقابة صارمة، إلا أننا كنا نعبرُ النهر بجموح.

عندما يصف الشاعر أودين: "قشعريرة الجناح المعوج التي تسقط على طول الجسد"، تلك الجملة التي سمعتها مؤخرا ضمن فيلمthe lost daughter""، أتذكر رحلة اليرقة الهشة التي تعرف بعد مغامرة قصيرة وبإلهام خفي ضرورة أن تتشرنق، لتبدأ صيرورة تحولاتها. تبقى هنالك ترقب اكتمالها دون استعجال، ثمّ تكافحُ بكل ما تستطيع لتخرج، تاركة وراءها قشرتها المتهاوية.

البعضُ يريد أن يتحول أبناؤهم بسرعة لنُسخ مُشوهة عنهم. مُتناسين أنّ الحياة عركتنا لنكون ما نحن عليه الآن. نفكرُ بكثير من الأنانية أن نختصر عليهم الخطوات وأن نُقصر عليهم الطريق الذي مشيناه. قد يبدو ظاهر الأمر الحبّ إلا أنّنا في حقيقة الأمر، نصنعُ ما قد يصنعه البعض بشرنقة، أولئك الراغبون في تخليصها بسرعة من عذاباتها، مُتجاهلين أنّ ذلك النضال الذي يعبر جسدها الضعيف، يجعلُ أجنحتها الغضّة أكثر صلابة، يجعلها أكثر قدرة على مواجهة أعباء التحليق، فهي دون نضال ستموت حتما.

نحن كما يبدو ننسى، أننا أيضا كنا نناضل يوما ما لنتحرر من الصورة الجاهزة التي يرغبُ الآخر بوضعنا في إطارها، ننسى أنّ التدافع الأبدي والحيوي يصنعُ الأجنحة الأكثر متانة.

الذوق الشخصي يتشكل على مهل، ولذا لا يمكن أن أطلب من ابني أن يُحب ما أحب من قراءات ومشاهدات، وليس من حقي أن افترض أنّ مشاهداته عبثية ولا تضيف شيئا إلى وعيه وشغفه، فهو لن يقف حيث هو الآن، سيخرج من شرنقته إلى الحياة التي ستعلمه الكثير.

هنالك أمهات وآباء يريدون أبناء مثاليين وفق قواعد صارمة. ولديهم افتراضات مُسبقة أنّهم يعرفون الحقيقة الكاملة وأنّ مهمة الأبناء إلغاء ذواتهم الفردية، بينما الأبناء ليسوا سيارة ولا قطعة أثاث في البيت أو مجوهرات ثمينة تكشفُ عن تفوق الأهل في اقتنائها وامتلاكها. ليسوا شكلا من أشكال التباهي، والتربية لا تأتي ضمن "كاتالوج" مُعد من قبل متخصصين ودارسين، لأنّ كل واحد من أبنائنا يحملُ بداخله بذرته الخاصة واستعداداته وجيناته وظرفه التاريخي.

هذا بطبيعة الحال لا يعني الإهمال وترك الأشياء تنزلق نحو الرداءة القصوى، فالرقابة ومعرفة ما يمرُّ عبر فلتر عقولهم ضروريٌ جدا، ولكن ليس معنى ذلك، أنّه ما أن تثار ضجة، حتى يذهبُ البعض دون فهم ودون حوار إلى منع الأشياء لمجرد الانسياق وراء الرأي الجمعي.

يمكنك أن تجلس مع ابنك، وأن تحاوره وأن تسمع منه، ومهما تبدتْ متابعاته تافهة ضمن وعيك الحالي، امنحه فرصة ليُدافع ليُبرر، إلى أن تجدا معا صيغة مشتركة لجعل الأشياء تمضي على نحوٍ أفضل.

امنحوا هذا الجيل الغارق في محركات البحث الجديدة والتقنية، أصواتهم الخاصة، احترموا عقلهم وذوقهم والذي من الأكيد سيمرُ بتحولاتٍ لا نهائية بمساندة واعية من الأهل.