جوهر التفاهة !
الكثير من الحبّ أو العداء، الكراهية أو الأحكام الجاهزة يمكن أن يتشكل في عالم افتراضي، الكثير من المودة أو التوحش يمكن أن يعْبر بيننا وبين أشخاص افتراضيين أيضا!
نبدو أحيانا وكأنّنا نعيشُ حياة موازية ومستنسخة على وسائل التواصل الاجتماعي، فثمّة من يرانا ونحن نأكل ونشرب ونقرأ ونحبّ ونعيش، بدقة أكثر: نحن رهن تصورات شديدة الحساسية.
يتورطُ أغلبنا في اضطراب العالم الذاهب في رحلة تحولاته الكثيفة، ويظهرُ الأمر بجلاء عندما نسْحقُ أنفسنا كذرات متهاوية أو عندما نتحول إلى مناظير مريضة، فيُراقبُ أحدنا "حالة" الآخر، وما قد ينشره، مفترضا أنّ ـ الآخر ـ أكثر سعادة لأسباب ساذجة، من قبيل أنّه ينشر صور أسفاره وأولاده ومقتنياته الجديدة، أو يظهر وسط أفراد عائلته في صور مُبهجة على الدوام!
والأمر الذي يزيدنا تعاسة يقيننا الأبدي أنّ تلك الحياة هي الحياة الأصيلة ـ للآخر ـ، فلا يُعكر صفو تلك الصور الفاتنة خدشٌ صغير، أو التماعة حزن يائسة!
الفكرة المرعبة هي أن يكون بيتنا وأفكارنا وتوجهاتنا مكشوفة ليس فقط للأصدقاء الذين نختارهم، بل للآلة الإعلانية التي تنهشُ خصوصيتنا لمآربها الدعائية، فنحن وكل اهتماماتنا ومؤشرات بحثنا نُستقرأ من عين خفية، في سوق لا نهائي المطامع.
قيمتنا يُحددها عدد المتابعين و"اللايكات" التي نحصدها في لهاث محموم، وكلما زادت صرنا مؤثرين ومُخيفين ويُحسبُ لنا ألف حساب، حتى وإن كنا بالغي الهشاشة!
هنالك من كان يصرخ في ليلة رأس السنة الجديدة: "جميعنا سوف نموت إذا لم نهتم بشكلٍ كافٍ"! حدث هذا عندما بدأتُ عامي الجديد بفيلم ساخر، إذ ليس من السهل تجاوز عمل يجمع بين ليوناردو دي كابريو وميريل ستريب وجينفير لورانس، والمخرج والكاتب الذي تمتع بمزاج هزلي "آدم ماكاي" في فيلم "don’t look up".
والذي يحكي قصّة عالمين يكتشفان اقتراب نيزك قادم من السماء ليهدد البشرية والحياة على الأرض، فيتلقى الناس والإعلام الخبر بلا مبالاة، ويظهرُ هذا الفتور المُحبط مقابل تعطش الجماهير للأخبار التافهة وفضائحيات المشاهير!
يُدخلنا "ماكاي" في نصه الحاد، والذي وصفه بعض النقاد بأنّه الأقل من "ناحية المحتوى والفلسفة السردية والقصصية"، إلا أنّ اللافت فيه أنّه لا يصنع قصّة تُظهر البطولات الهوليوودية الخارقة، بل ينتقد الفكرة الساذجة التي تقول بأنّه على المذيعين أن يُحافظوا على ابتساماتهم وأن يتمتعوا بالمرح، حتى وإن كان الكون كله في طريقه إلى الفناء!
لفت انتباهي الطريقة التي قدّم بها "ماكاي" الجيل الشباب المهووس بمواقع التواصل الاجتماعي وصناعة المحتوى التهريجي الذي طال كل شيء، حتى ما هو جاد!
تقول المذيعة والمذيع: "من واجب الإعلام التخفيف من حدة الأخبار السيئة"، فيصرخ البطل في وجههما: "توقفا عن الترفيه، نحتاج أحيانا لقول أشياء لبعضنا البعض، نحتاج لسماع أشياء أخرى".
يذكرني هذا الفيلم بفيلم آخر، عن الفتاة التي تحصل على عمل في شركة الانترنت الأكثر نفوذا The Circle، والتي هي مزيج بين جوجل وفيس بوك، فتظن الفتاة بأنّها حصلت على فرصة عمرها، لكنها تكتشف بأنّها مجرد أداة تافهة مُفرغة من انسانيتها، حيث توضع كاميرا تبثُ كلّ ما تفعله في يومها على الانترنت لمدة 24 ساعة في اليوم باستثناء 3 دقائق، وهو الوقت المستقطع لاستخدامها المرحاض! فيتجلى الاستعباد في أبشع صوره، "فالكل مُراقب، الكل مكشوف"!
في السنة الجديدة، تمنيتُ أمنية واحدة، ورغم بساطتها بدتْ مستحيلة، تمنيتُ أن أغدو مثل "إيجر" الذي ينهضُ كل يوم ليُصافح العالم دون أي امتعاض من الأشخاص أو المدنية التي قوضتْ أحلامه القليلة، كما تبدى لنا في رواية "حياة كاملة" لروبرت زيتالر. تلك الرواية التي تحكي عن الشقاء الذي يغدو آسرا على نحو غامض، لكن "إيجر" لم يكترث لكل هذا وظل يُقدر عزلته بعذوبة نادرة.
تُريك الرواية آلام "إيجر" وخساراته تباعا، دون أن يشي بنبرة لوم أو حسرة واحدة. ذلك التصالح مع كل شيء، وكأنّما مجرد النقمة هو مضيعة وقت أمام آلة التغيير الجارفة، التي تأخذ العالم برمته إلى "حفلة التفاهة" التي تحدث عنها ميلان كونديرا، "فالتفاهة جوهر الإنسان وحقيقة الوجود الذي فُرغ من المعنى".
