قراءة حول قانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح
يهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة عامة لبعض الجوانب المهمة بقانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح والذي أعلنت الحكومة المضي قدمًا العمل على دراسته وتعديله، أيضا يأتي هذا التعديل متزامنا مع التعديلات المنتظرة في أغلب التشريعات التي تخص الشأن المالي والاقتصادي. تم منح الإشراف على هذا التعديل لجهاز الرقابة المالية والإدارية نظرًا لقيامه بدور أعمال هيئة مكافحة الفساد، وسوف نستشهد ببعض من الوقائع التي تمت معايشتها إبان إدارتنا لوحدة التدقيق الداخلي بإحدى الجامعات المرموقة لفترة تزيد على 20 عاما، هذا الاستشهاد يأتي للعلاقة المباشرة والدور الحيوي المأمول من تلك الوحدات القيام به في حماية المال العام.
فبعد إنشاء وحدات التدقيق الداخلي بالوزارات والمؤسسات الحكومية تماشيا مع مبادرة الرؤية المستقبلية للاقتصاد الوطني «2000-2020» والتي من بين أهدافها العمل على تبسيط إجراءات الصرف ونقل الصلاحيات التي كانت تمارسها وزارة المالية للوزارات والوحدات الحكومية. تنوعت درجات الاستقلال المالي والإداري الممنوحة لتلك الوحدات في ثلاثة نماذج. النموذج الأول وهو الأقل شيوعا، وهي الوحدات التي منحت الاستقلال المالي والإداري الكامل (Full Autonomy)، بمعنى أنها أعطيت التصرف بموازنتها السنوية فهي تقوم بإجراءات إدارة المال العام والتناقص والصرف المالي طبقًا لقانونها الخاص أو تطبيق قانون المالية العام للدولة.
النموذج الثاني وهو الوسطي وهي الوحدات التي أعطيت شبه الاستقلال
(Partial Autonomy)، وبالتالي تم منحها نوعا من المرونة في إدارة موازناتها السنوية حسب طبيعة عملها، ولكنها تكون مرتبطة بنظامها المالي وأيضا بالنظام المالي الموحد وبإشراف شبه مباشر من وزارة المالية. والنموذج الثالث وهو الأكثر شيوعا (No Autonomy)، والذي يشمل أغلب الوحدات الحكومية التي لم تتمتع بأي درجة من درجات الاستقلال. عليه جميع إجراءات الصرف تخضع للنظام المالي الموحد للدولة وأيضا تخضع بعضا من أعمالها الإدارية لإشراف جهة حكومية أخرى، على سبيل المثال التعيينات والترقيات والابتعاث الداخلي والخارجي وأيضًا الدورات التدريبية. والقول بأي النماذج ملائمة ويتوازن مع إجراءات الضبط الداخلي وسهولة إجراءات الصرف المالي فمن الصعوبة تحديده، حيث لم تخضع تلك النماذج الثلاثة لدراسات أو تجارب عملية من جهة استشارية محايدة. فكان كل نموذج له مبرراته، وله أثار إيجابية وأيضا سلبية على سير العمل وتعزيز مبادئ الحوكمة والإفصاح المالي، وبالتالي إعادة هيكلة ورسم السياسات المالية للدولة المتصلة بحماية المال العام قد ينتج عنها نموذج موحد يقوم على المواءمة بين النماذج السابقة وأي نموذج يتم العمل به لاحقا.
قانون حماية المال العام، عرف المسؤول الحكومي بأنه: كل شخص يشغل منصبا حكوميا، سواء كان بصفة دائمة أو مؤقتة في إحدى وحدات الجهاز الإداري للدولة. كما تم اعتبار أعضاء مجلس عمان بشقيه -الدولة والشورى- ضمن هذا التعريف، ولكن بطبيعة الحال لم يعد المسؤول الحكومي هو الآمر الناهي في المنظومة المالية بالوحدة التي يشرف عليها، فقد تعقدت الأدوار والصلاحيات تماشيا مع ارتفاع الموازنات المالية المخصصة للوحدات الحكومية. على سبيل المثال تصل الميزانية المخصصة لوزارة التربية والتعليم ما يزيد على مليار ريال عماني سنويا. عليه كان لازمًا إيجاد سلم للصلاحيات والتفويضات المالية التي تساعد الوحدة الحكومية في تسيير أعمالها بشكل يوازن بين التطبيق السليم للقوانين وتجويد الخدمات وبين الرقابة على الأموال العامة. إذا أخذنا مثالًا لذلك وهي إجراءات التناقص الحكومي سواء للمناقصات الداخلية التي تطرحها الوحدة أو التي يشرف عليها مجلس المناقصات، نجد أن المسؤول الحكومي أصبح دوره إشرافيا ينتهي هذا الإشراف بالاعتماد النهائي لتك المناقصة. أما ما يتخلل هذا الإجراءات ويتدخل في توجيهها فهم أشخاص آخرون لديهم درجات ومناصب مختلفة، وبالتالي أصبح لا مناص من التوسع في تعريف المسؤول الحكومي ليشمل كل من له صلة بالإشراف والمتابعة والتحليل والتفاوض والرقابة والصرف من المال العام.
هذه الشمولية المنتظرة في تعريف المسؤول الحكومي سوف تعمل على تضييق الخناق على ما أصبح يعرف بالشبكات أو مجموعة الفرق الجماعية التي تحاول إيجاد ثغرات مالية ورقابية لكي تعمل على تغليب مصلحتها الخاصة فوق المصالح العليا للوطن.
قانون حماية المال العام، حدد عددا من المواد، والتي تعتبر من المحظورات التي يجب على المسؤول الحكومي تجنبها منها على سبيل المثال: عدم استغلال المنصب لتحقيق منفعة أو الحصول على معاملة متميزة. ومن مواده الجديرة بالاهتمام تلك التي تتعلق بإلزام المسؤول الحكومي تقديم إقرار بذمته المالية إلى جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة. يتضمن هذا الإقرار بيانا بجميع الأموال المنقولة والعقارية المملوكة له ولأزواجه وأولاده القصر. خلال الفترة الماضية الجهاز طبق جيدا هذا النص باختيار فئات لها صلة مباشرة بالمال العام والتي يقع على عاتقها الأمور المالية والرقابية والمشتريات بالوحدات الحكومية، إلا أن النص الحالي أوضح أن تقديم إقرارات الذمم المالية تكون كلما استدعت الضرورة لذلك، بمعنى أنها صلاحية تقديرية قد لا تستدعي الضرورة طلب تقديم تلك الإقرارات من جميع من يشملهم تعريف المسؤول الحكومي بالوحدات الحكومية كافة.
ومن ضمن المواد المتعلقة بتضارب المصالح بالقانون الحالي، هو عدم جواز قيام وحدات الجهاز الإداري للدولة والتي يكون فيها المسؤول الحكومي مشرفا عليها، التعامل مع أي شركة أو مؤسسة تكون له فيها مصلحة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ودراسة تعديل قانون حماية المال العام جاء متسقا مع «رؤية عمان 2040»، حيث حددت الرؤية بعض المؤشرات التي لها علاقة بالمال العام وطرق مكافحة الفساد. من تلك المؤشرات مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية. ضمن هذا المؤشر فإن الرؤية تستهدف أن تحتل سلطنة عمان التصنيف رقم 20 ضمن الدول المدرجة بهذا المؤشر بحلول عام 2040م. على أرض الواقع تقدمت سلطنة عمان في هذا المؤشر (قياسا بعدد الدول) بوصولها للتصنيف رقم 49 في عام 2020م من بين 180 دولة على مستوى العالم. هذا التسارع في الوصول لهذا المستوى المتميز يعتبر تقدما في الطريق الصحيح نحو تبؤ المرتبة المستهدفة برؤية عمان، ولكن لا ننسى بأن هناك منافسة وتسابقا من أغلب الدول للحصول على الصدارة في هذا المؤشر. كما أن التعديل المرتقب سوف يكون محفزًا وممكنًا قويًا للتسريع في رفع المؤشر المتأخر الذي يتصل بعنصر الحوكمة. فقد احتلت سلطنة عمان التصنيف رقم 165 من بين 204 دولة ضمن مؤشر الحوكمة العالمي -التعبير والمساءلة - في عام 2017م. هذه المرتبة ما زالت دون الطموحات وبالتالي يعوّل على إنشاء مركز عمان للحوكمة والمكتب الوطني للتنافسية، العمل على إعطاء هذا المؤشر مزيدا من التطبيق العملي عن طريق إرساء المعايير العالمية للحوكمة في المؤسسات العامة والشركات في حال الرغبة الوصول للتصنيف المستهدف وهو رقم 30 بحلول عام 2040م.
نختم بالقول بأن إيلاء هذه الأهمية نحو تعديل قانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح، أصبح ضرورة حتمية لكي يكون هذا التعديل بداية الخطوة الأولى لخطوات أيضا مهمة لدراسة ما يتصل بنماذج درجات الاستقلال المالي والإداري للوزارات والمؤسسات المدنية نحو إيجاد نموذج حكومي -غير بيروقراطي- ويكون هذا النموذج ممكنًا لأعلى درجات الضبط المالي ويتميز بالأسبقية والسرعة في معالجة أي اختلالات مالية قد تحدث أثناء تنفيذ الخطط والبرامج التنموية وبناء برامج عالية التقنية تكون صدا منيعا أقوى لحماية المال العام وتشريعات محدثة مستنبطة من افضل الممارسات العالمية المتصلة بتجنب تضارب المصالح.
_____________
