من التطور البيولوجي إلى التطورية الاجتماعية
عبدالله العليان
عندما ظهرت نظرية التطور البيولوجية، لاقت رواجًا كبيرًا لدى الأوساط الفكرية والفلسفية في الغرب، واعتبرت أنها ضربة وجهت للكنيسة المسيحية، بما وضعته من سياج فكري على العلم والتقدم ، وبعدما وضع تشارلز داروين نظريته في التطور البيولوجي، والانتخاب الطبيعي، اعتبرها بعض الفلاسفة ، أنها رؤية نهاية لمسألة تطور الحياة البيولوجية، بطريقة ميكانيكية، وتم تعميمها على كافة المخلوقات البشرية، وقد أشرنا في مقالنا السابق: (الانتخاب الطبيعي في النظرية الداروينية)، إلى الانتقادات التي وجهّت إلى هذه النظرية، سواء في تطور الأجناس من بعضها البعض، أو في مسألة الاصطفاء الطبيعي للمخلوقات والبقاء للأصلح.
ومع أن البعض من الباحثين يرى أن فكرة تحويل التطور جاءت أسبقيته من «هربرت سبنسر» وليس داروين، فقد سبق له أن أصدر بحثًا تحدث عن الرؤية التطورية، قبل أن ينشر داروين كتابه الشهير (أصل الأنواع)، حمل عنوان « فرضية التطور» قال عنه في وقت آخر بأنه :« شكل نموذجًا لكل ما جاء بعده» وقد كان هذا البحث ـ كما يقول الباحث «كادينر في كتابه (هؤلاء درسوا الإنسان) إن رؤية سبنسر اعتبرت:« دفاعًا لامعًا عن نظرية التطور العضوي، وكاد سبنسر أن يشير فيه إلى تنازع البقاء كمفتاح للتطور.. ومع أن سبنسر كان قد تأثر منذ عام 1820 بفكرة التطور عامة إلا أنها لم تتركز أمامه بشكل أخاذ إلا عام 1857، بينما كان يعاود قراءة رسائله تمهيدًا لنشرها». ورغم هذا السبق كما يرى د.محمد إسحاق الكنتي، «فإن سبنسر تبنى التطورية كما صاغها داروين، فحاول هو ومورغان منهجتها «لكنهما ألبساها في الوقت نفسه صبغة راديكالية بمدها إلى المجال الاجتماعي».
وقد حاول بعض التلاميذ أو أنصار نظرية التطور وفق الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح، من مجالها البيولوجي إلى الجانب الاجتماعي، ومن ينطبق على الحيوان، يتم تطبيقه على الإنسان، وهذه قفزة كبيرة في نظرية صاحبها لم يفكر في تحويلها من مسارها البيولوجي إلى رؤية اجتماعية خطيرة كهذه الرؤية المتحولة، وتم تطبيقها بصورة تقترب من طرح رؤى إقصائية لشعوب من الحياة وفق هذه النظرية (البقاء للأصلح)، ويرى د. محمد عابد الجابري في كتابه (المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية)، أن هذه النزعة التطورية الاجتماعية خرجت رؤية عرقية علموية استعمارية تحت غطاء التطور ومحاولة زرع النظرية التطورية الدارونية، التي تكرس ما تسميه (البقاء للأصلح)، من نظرية في أصل الأنواع، إلى رؤية إمبريالية توسعية للهيمنة والسيطرة على الشعوب:« لقد تعززت هذه الأيديولوجيا التاريخانية التي وجدت تطبيقها الأوسع في فلسفة التاريخ ـ وعند هيجل خاصة ـ تعززت بنظرية التطور الداروينية التي كرست فكرة تغير الأنواع (نبات، حيوان، إنسان)، وإمكانية تحول بعضها إلى بعض على سلم من التطور يتم فيه الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى .
وقد فسر داروين ذلك بما سمي بمبدأ «الاصطفاء الطبيعي» و«البقاء للأصلح»، وقد انتشرت فكرة « البقاء للأصلح» انتشارًا واسعًا فصارت مبدأ عامًا يفسر به التطور والتقدم في جميع الميادين، بما في ذلك ميدان التاريخ والاجتماع .وهكذا سيتحول مبدأ «البقاء للأصلح» إلى مبدأ «البقاء للأقوى». وإذا كان هذا المبدأ يقدم تبريرًا أيديولوجيا سافرًا للهيمنة الطبقية البرجوازية داخل أوروبا، وتبريرًا لاستغلالها واستبدادها، فهو يقدم أيضًا التبرير نفسه للتوسع والهينة خارجها: الاستعمار».
ولا شك أن إدخال النظرية البيولوجية وتحويلها إلى عقيدة اجتماعية تتعلق بحياة البشر وتصنيفهم وفق الانتخاب الطبيعي إلى شعوب متخلفة ينبغي إزالتها وشعوب أخرى متقدمة هي التي ستبقى، والبقاء للأصلح، فهي بلا شك تنطلق من رؤية عنصرية استئصاليه لشعوب أخرى، وهذا للحق لم يذكره تشارلز داروين في نظر ية التطور، أوالاصطفاء الطبيعي كما أعناه بالمملكة الحيوانية.
ومن هذا المنطلقات الفكرية والسياسية، أصبحت نظرية التطور تتم قولبتها من رؤية محددة في الجانب البيولوجي إلى رؤى أخرى مغايرة ، لكن الأسباب الحقيقية لهذا الانحراف بالتطور هي النظرة الاستعمارية للشعوب الأخرى، وجُعل الاصطفاء الطبيعي، هو المخرج لطرح التطورية الاجتماعية، ولذلك ـ كما يقول الفيلسوف الفرنسي المسلم (رجاء جار ودي)، ليس الأمر من منطلقات علمية، بل المراد شئ آخر فـ:« لم يكن الاستعمار يُبرر ويُسوغ بمساهمة الأناجيل، بل بمساهمة الحضارة العلمية العلمانية ونقلها إلى الشعوب «البدائية» ـ كما يرون ـ الراسبة في المرحلة «اللاهوتية». فليس من قبيل المصادفة البتة، بل على العكس ومن باب الانسجام الفكري أن يكون أعظم حامل لهذه الأيديولوجيا، ومؤسس المدرسة العلمانية، حول فري، هو في الوقت نفسه المحرّض على الغزو الاستعماري في مدغشقر وتونس والفيتنام». ـ مضيفًا في فقرة أخرى مما قاله: «لا أتردد في القول إن هذا ليس من السياسة ولا من التاريخ ، أنه من الميتافيزيقيا السياسية.
أيها السادة، من الكلام بصوت أرفع وبحقيقة أكبر. يجب القول بصراحة إن للأعراق العليا حقًا، عمليًا على الأعراق السفلى».
ولا شك أن النظرية التطورية في مسارها الاجتماعي، خلقت رؤية مخالفة لما قاله فلاسفة عصر الأنوار، الذي تحدثوا عن القضية الإنسانية وتقديمها على رؤى كثيرة حتى من الدين الكنسي الآنسوية والحرية والتعددية السياسة وحقوق الإنسان إلخ: ولكن جاء مخالفًا للواقع فان فلسفات عصر الأنوار، أتاحت للدول القومية الغربية، تحتل الدول الأخرى، من كونها من أعراق سفلى ويجب محوها أو على الأقل إقصائها من الوجود العملي والإداري، أو استعمارها تحت شعار تمدين هذه الشعوب، وربطها بفكر الفكر الغرب ورؤيته الفكرية والسياسية، والأغرب أن هذا تم في عصر الحداثة وما بعدها، ويناقش د. عبد الوهاب المسيري في كتابه (الفلسفة الغربية وتفكيك الإنسان)، هذه الرؤية العنصرية الغربية تجاه الأخر «الأعراق السفلى» فيقول: «وقد وظفت الداروينية الاجتماعية في تبرير التفاوت بين الطبقات داخل المجتمع الواحد وفي الدفاع عن حق الدولة العلمانية المطلقة وفي تبرير المشروع الإمبريالي الغربي على صعيد العالم بأسره. فالفقراء في المجتمعات الغربية وشعوب آسيا (والضعفاء على وجه العموم) هم الذين أثبتوا أن مقدرتهم على البقاء لبيت مرتفعة، فهم يستحقون الفناء أو على الأقل الخضوع للأقوياء ولشعوب أوربة الأقوى والأصلح».
ولا شك أن هذه الرؤية العنصرية للإبادة وجدت لها حاضنة النظرية التطورية وقوانينها في الانتخاب الطبيعي الذي حدده -كما يرى المسيري- داروين وجعل منه أسسا لفناء بعض المخلوقات غير القادرة على الصمود، وعندهم ـ كما يضيف د. عبد الوهاب المسيري، أنهم ينطلقون من أفكار تبناها دعاة الداروينية الاجتماعية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي ذاتها التي تسري على الظواهر الإنسانية، التاريخية والاجتماعية. وهم يذهبون إلى أن تشارلز داروين قد وصف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين: حول (أصل الأنواع) من خلال الانتخاب الطبيعي و(بقاء الأجناس) الملائمة في عملية الصراع من أجل الحياة». ولذلك فإن الفكرة لها منطقاتها الفلسفية التي تريد إقصاء الآخر أو إفناءه، وجعل هذه الفكرة حقيقة علمية لتبرير ذلك العمل العنصري تجاه الشعوب الأخرى.
