العيد.. نظرة في الجذور

23 مايو 2021
23 مايو 2021

خميس بن راشد العدوي -

عام 2005م.. صدر لي عن مكتبة الغبيراء كتاب بعنوان «فلسفة العيد وفقهه»، تحدثت فيه عن عيدَي؛ الفطر والأضحى، ولأن الإسلام لم يأتِ مُنْبَتَّاً عمّا سبقه، وإنما جاء مصلحاً لإيمان الناس، لكي يتوجه الإنسان بالعبادة إلى الله وحده، فإن البحث عن الأعياد القديمة يمكّننا من المقارنة بين معتقدات الناس قديماً، ومعتقداتهم بعد انتشار الإسلام وهديه، وماذا بقي من تلك المعتقدات. فالمقال.. يأتي محاولة لفتح باب دراسة تطور المعتقدات حول العيد، وقد خصصته للبحث عن جذور العيد في عمان، وهي محاولة «حدسية»، قابلة للإثبات أو النقض أو الإضافة والتطوير، وذلك.. لغياب المعلومات المباشرة حول الأعياد قبل الإسلام لدينا، بيد أنه حدس علمي مبني على البحث المتواصل للمعطيات الحضارية للمنطقة.

ولغياب النصوص الحضارية؛ فإن المقال استفاد من دراسات الحضارات المجاورة، وعلى تأويل بواقي الآثار، فمنطقتنا لم ينلها البحث الآثاري إلا النزر، كما أن حقبتها موغلة في القدم، حيث ترتد إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد؛ التي معلوماتنا عنها عموماً غائمة، وتخضع في تفسيرها لنظريات معرفية شتى، ولكن لابد من خوض غمار المحاولة، فالمعرفة.. كغيرها؛ تولد من بذرة، حتى إذا ما سُقيت بماء البحث ودار عليها الزمن دورته استوت دوحة وارفة.

المقال.. يفتّش عن الجذور الأولى للعيد في عمان، وهو مجال لم أجد مَن استكشفه قبلي، ولذلك.. فالصعوبة تكتنفه من كل جانب، من حيث قدم حقبته، وغياب المادة المباشرة للبحث، وندرة الدراسات الآثارية التي تعنى به. والمقال.. مدين بالشكر للدراسات الحضارية التي استفاد منها، ويخص بالذكر كتاب «الأعياد في حضارة بلاد الرافدين» لراجحة خضر النعيمي، الذي أعانني على فهم الأعياد في المنطقة خلال تلك الحقبة السحيقة.

والسؤال: لماذا الألفية الثالثة قبل الميلاد؟

لأنها -برأيي- الطور المؤسِس للحضارة العمانية، وكثير من معطياتها امتدت طويلاً، وبعضها وصل إلينا، ولا تتوفر معلومات يمكن تحليلها لما قبل هذه الحقبة، بالإضافة إلى أن بحوثي ودراساتي منصبة خلال السنوات الأخيرة عليها، في سبيل وضع دراسة عن الحضارة العمانية. وأدعو القارئ ليفهم أبعاد المقال أن يرجع إلى المقالات المتعلقة بذلك، والتي نشترها -مشكورة- جريدة «عُمان».

العيد.. يحمل معنى العود، وهو التكرار في وقت محدد من السنة، ولكن ليس بالضرورة أن كلمة «عيد» اشتقت من الجذر «عَوَد»، بل قد يكون العكس، حيث سبقت كلمة «عيد»؛ بما يدل على الاحتفال المتكرر، ثم تشكّل منها الجذر «عَوَد» ومشتقاته. في القاموس السومري.. الكلمة التي تدل على العيد قريبة منها؛ وهي «إزن»، وبملاحظتنا للزمن الموغل في القدم، وعدم وصول التصويت إلينا كما هو، ولدخول الكثير من الكلمات السومرية في أصول العربية؛ كما حققه عالم اللغة السومرية عبدالمنعم المحجوب، فلا أستبعد أن تكون كلمة «عيد» أصلها القديم «إزن»، وبناءً على التلاقح بين اللغتين السومرية و«السلوتية» العمانية في الألفية الثالثة قبل الميلاد؛ فلا يبعد كذلك أن تكون الكلمة المستعملة في عُمان هي «إيدن» أو «عيدن»، ونحوها. والعيد.. لا يشترط في معناه الفرح؛ على الأقل في سياقه التطوري، إذ إن غرضه هو التقرب إلى الإله وأداء طقوس العبادة إليه، وتقديم الأضاحي بين يديه، وقد يرتبط بطقوس ما بعد الموت من حياة أخروية، وهذا كله باعث للخشوع ومثير للرهبة.

العيد.. نشأ في طقوس الدين، وقد ظهر تقريباً بعد الانقلاب الأبوي على الأمومة، إثر دخول الإنسان مرحلة الزراعة، عقب مرحلة قنص الحيوانات، وكان يتقرب فيه إلى الآلهة بحسب الفصول الزراعية، يلجأ إليها لتبارك له في زرعه، أو تغيثه بالمطر لري مزروعاته، فمن معتقداتهم أن الزراعة الأرضية مرتبطة بالآلهة السماوية كالكواكب والنجوم، فكان يحتفل في نفس الوقت من كل عام ليقدم لها القاربين، وهي تمطره بالماء، فينمو زرعه ويتبارك ثمره.

وبالنسبة لعمان؛ فيبدو.. أن أعيادها قد بدأت بعد استئناس الحيوانات كالبقر والأغنام والجمال، وفي ظل تقاسم النفوذ بين المعبد والقصر، وهي مرحلة بدأ التمايز فيها بين المعبد وطقوسه؛ والقصر واختصاصاته، في ظل نظام «دولة المدينة». فبينما العشور والصدقات من الثمار تذهب إلى الحاكم، وهو يوزعها على الشعب ويدير بها مملكته بعد أن يأخذ منها نصيبه؛ كانت الأضاحي تُقدَّم إلى المعبد، اعتقاداً منهم أن «أرواحها» تصعد إلى الإله، نقرأ هذا في لوحة صخرية بمنطقة «معبد ني صلت» في مدينة «كدم» العاصمة العمانية الأقدم، ويبدو.. أن التقرّب كان بالبقر، لأن اللوحة تقتصر عليها، وبها العديد من الرسمات للبقر، كلها متجهة -بتقديري- نحو المذبح.

ويبدو.. أن هذا العيد توقيته بالحساب الشمسي؛ لأنه مرتبط بالفصول الزراعية، وهو يُعنى بالخصب، حيث تظهر الآلهة؛ الذكر والأنثى معاً، وهذا يُقرأ من الصور المنحوتة على صخرة المعبد، ولو غضضنا النظر عن الصور الأخرى التي بالصخرة، والتي تحتاج كذلك لتفسير، فإننا نرى رجلاً رافعاً آلة كأنها خنجر، عن يمينه امرأة، وعن شماله طفل، مما يشيء بتخليد آلهة الخصب والتكاثر، والتي لا يبعد أن الحاكم كان يمثّلها، حيث إن الحكام حينذاك يرتقون لمكانة الألوهية، لاسيما إن كان للحاكم حضور سياسي واجتماعي قوي، وهذا ما يمكن أن نلحظه من الخنجر الذي يرفعه بيده بكونه دليلاً على السطوة، ولعل العيد عندهم كان تخليداً للنصر، وربما لتوحيد عمان، بعد تغلبهم على «أوروك»، بحسبما نفهمه من بعض النصوص الأكدية. وحمل العيد لدلالات عدة موجود في الأعياد القديمة، كالخصب والنصر والوحدة الاجتماعية والتقرّب للآلهة. ولعله كان عيداً سنوياً، وقد اقترحتُ من قبل أن المنطقة التي تقع تحت «قرن كدم»، والقريبة من صخرة المعبد، هي منطقة إقامة الاحتفالات الدينية.

ما يلفت النظر.. أن الناس إلى عصرنا كانوا «يتبركون» بدم البقر، فكان مَن يفتتح بيتاً جديداً أو مشروعاً مهماً يذبح بقراً، ويلطّخ بدمها بقعاً من الجُدُر وغيرها، وهي عادة فيما يبدو موروثة من تلك الأزمنة؛ حيث كان دم البقر مقدساً أو مباركاً. وكانت الأضحية من البقر؛ بعضها يقدم للكهنة في المعبد، وبعضها يوزع على الفقراء، بالإضافة إلى أكل مُقدِّم الأضحية وإطعام أهله منها، وهو تقليد لا يزال باقياً حتى اليوم، وقد وجهه الإسلام ليكون قربة لله وحده.

هذا بالنسبة للعيد الكبير.. والذي غالباً كان يؤمه الناس من داخل المدينة وخارجها، حيث كان «معبد ني صلت» يعتبر بيتاً من «بيوت الله»، التي تقام في الأودية؛ لاعتقادهم أن الوجود انبثق من الماء، فالخصب ومجاري المياه عنصر أساس في الدين حينذاك. وتوجد أيضاً أعياد صغرى، منها:

- إقامة الصلوات وإخراج القربات والذبائح للاستسقاء، واستدرار الغيث من الآلهة، حيث تقام في الفضاء، قرب مجاري المياه. وكان الاستسقاء من الأعياد الفصلية، ويأتي عند مواقيت هطل المطر، وإلى وقتنا؛ تقام صلاة الاستسقاء في الفضاء عند الأودية، وكانت تُخرَج معها الصدقات وتُذبح الأضاحي؛ خاصةً البقر قربة لله.

- التقرب إلى «الإله سين»؛ الذي انتشرت عبادته في المنطقة عموماً، بإقامة الأدعية والصلوات له، ولبس الملابس النظيفة، وإطعام الناس لحوم الأضاحي والخبز، حيث تذبح البقر أو الكباش بحسب أعداد الناس. وهذا العيد مرتبط بالحساب القمري؛ لاعتقادهم أن «الإله سين» هو القمر. ويبدو.. أنه كان يقام في الأماكن المرتفعة لاعتقادهم بقربهم من الإله، وعند المقابر لتذكّر الأسلاف والمصير الأخروي، إلا أن الإسلام وجّه المسلمين في عبادتهم إلى الله وحده، وجعل التقرب بالأضاحي لله على من حج بيته الحرام، وبقي الذبح عندنا في عيدَي الفطر والأضحى، ويقام العيد في الأماكن المرتفعة المجاورة للمقابر؛ مثلما كان بمنطقة «مساجد العُبَّاد» ببهلا، ثم انتقلوا إلى منطقة المستغفر بجوار مقبرة كذلك.