العرب والعالم

مدارس الخيام.. حين يكون التعليم فعلًا مقاومًا

14 يوليو 2025
مدارس الخيام.. معركة بقاء معرفي في وجه الإبادة
14 يوليو 2025

في خيمة بيضاء، موصولةٍ بالحبال إلى أوتاد غرستها الأمهات بأيدي مرتجفة، جلست مريم إسماعيل (12 عامًا) على قطعة من الكرتون، تفتح كتاب القراءة الذي استعارته من جارتها في المخيم. لم تكن تلك المرة الأولى التي تحضر فيها صفًا تعليميًا وسط الخيام، لكنها كانت المرة الأولى التي شعرت فيها أنها «لا تزال تلميذة»، رغم كل ما أحرقه الزمن من دفاترها.

المدارس البديلة

منذ أن بدأت الحرب، ومريم لا تكاد تذكر كيف كانت تقرأ. سنواتها الثلاث الأخيرة امتلأت بالنجاة، لا بالنجاح. حين قصف الاحتلال مدرستها، حملت حقيبتها الصغيرة وظلت متمسكة بها، حتى بعد أن تحولت المدرسة إلى أنقاض. كانت تقول لأمها وهي تبكي: «يمكن يرجعوها.. يمكن نرجع»!

لكن العودة لم تحدث. كانت المدارس تُقصف واحدة تلو الأخرى، وتتحول لملاجئ أو خرائب، ولم يعد لمريم من مقعد خشبي تجلس عليه. «الكرسي الخاص بي كُسر بالقصف.. ومُعلمتي استشهدت»، تقول وهي تحدّق في الرمل المتناثر على أطراف الشادر.

رغم الألم، تعلّقت بأمل جديد، حين بدأ متطوعون ينظمون دروسًا في الخيام. كانت هذه «المدارس البديلة» مثل نافذة صغيرة تُفتح نحو الشمس، وسط عتمة النزوح. «أنا بحب القراءة والعلوم.. أتمنى أن أصبح طبيبة أمراض نساء»، توضح بخجلٍ طفولي، ثم تضيف بحزم: «وسأظل أدرس حتى لو ما ظل عندي غير ورقة وحدة».

في خيمتهم، لا توجد طاولة للشرح، ولا سبورة، لكنّ هناك معلمين جلسوا على الأرض، مع الطلبة، يشرحون الحساب واللغة العربية ويقرؤون معهم قصصًا عن الصبر والمقاومة. «يا أستاذ، نحن انتهينا من حفظ ودراسة سورة (البقرة).. متى نبدأ (آل عمران)؟» سأل أحد الأطفال، وكأن شيئًا من الحياة الطبيعية قد عاد ليتسلل بين الأنقاض.

مريم تكتب بأقلام قصيرة الرأس، على دفاتر من أوراق متفرقة، وتقول إن التعليم أصبح عندها «مثل المياه.. نشربه كي نعيش»، وتكرر بحماسة: «حتى لو في قصف.. حتى لو في موت.. لابد أن نتعلم».

خراب التعليم

لم يعد التعليم في غزة حقًا مضمونًا كما تنص المعاهدات الدولية، بل أصبح فعلًا مقاومًا يتحدى الموت. فالاحتلال لم يكتفِ بإسقاط البيوت على رؤوس ساكنيها، بل أسقط أيضًا جدران المدارس، وهدم قاعات الجامعات، وأحرق المكتبات، وسوّى المرافق التعليمية بالأرض.

بحسب إحصائية حديثة أصدرتها وزارة التربية والتعليم العالي بتاريخ 8 يوليو 2025، فإن الحرب المدمّرة على قطاع غزة – المستمرة منذ 7 أكتوبر 2023 – قد تسببت باستشهاد 17175 طالبًا، وإصابة أكثر من 26264 من الطلبة، فيما تعرضت البنية التحتية التعليمية لدمار غير مسبوق.

تم تدمير 252 مدرسة حكومية، بينها 118 مدرسة دُمّرت كليًا، إضافة إلى 91 مدرسة حكومية أخرى تضررت جزئيًا، و91 مدرسة تابعة لوكالة الأونروا، كما تم تدمير 60 مبنى جامعيًا بشكل كامل، وإزالة 25 مدرسة بالكامل من السجل التعليمي- وهو ما يعني أنها لم تعد موجودة حتى على الورق، لا مباني ولا طلابًا.

كل هذا الدمار أوقع الأطفال في فراغ تربوي، لا تملؤه سوى مبادرات متناثرة، وشعلة أمل صغيرة ينفخ فيها معلمون صامدون، تطوّعوا ليحوّلوا خيام الإيواء إلى صفوف بديلة، ترد الروح لعقول صغيرة خنقها الدخان.

أرضٌ تُنبت الحروف

«نحن نجلس على الأرض من أجل التعليم، ومن أجل المستقبل». بهذه العبارة الحاسمة، لخّصت ريم أبو العيش (12 عامًا) رسالتها إلى العالم. ريم، التي خسرت منزلها ومدرستها وأصدقاءها، تذهب الآن كل صباح إلى شادر صغير بجانب مسجد مدمّر، حيث يجتمع أكثر من 30 طفلًا تحت راية واحدة: «العلم رغم النزوح».

تقول ريم: «كنّا نخاف من الطائرات والانفجارات، ولكن حين نكون جالسين لنتعلّم، ننسى الخوف قليلًا». ثم تستدرك بنبرة حزينة: «مدرستنا أصبحت ترابًا.. لا توجد مراوح، ولا نوافذ، ولا حتى طاولة نكتب عليها، ولكن معلمتنا قالت لنا: القلم أهم من الجدران».

ورغم أنها تعاني من نقص شديد في المستلزمات، وتحمل دفترًا استعارته من قريبتها، إلا أنها لا تتغيّب عن الحصص. «أكتب على الورقة، ثم أمسحها وأكتب من جديد.. المهم أن نستمر في التعلم»، تضيف وهي تضحك بخجل.

ما يلفت الانتباه في هذه المبادرة، ليس فقط الإصرار، بل الوعي العميق بضرورة التعليم. «أرغب في العودة لقراءة دروس العلوم عن جسم الإنسان»، تختم ريم، ثم تهمس: «ربما أكتشف علاجًا للوجع الذي يسكننا».

الذاكرة تُقاوم

لم تكن ريم وحدها من وجدت في الخيمة مساحةً للنجاة من الخوف، بل إن عشرات الأطفال الذين انهار عالمهم المدرسي وجدوا في هذه المبادرات المتناثرة فرصة لالتقاط ما تبقّى من ذاكرتهم التعليمية.

فيما مضى، لم يكن أحمد خضر (16 عامًا) يتصور أن التعليم يمكن أن يصبح حلقة من حلقات المقاومة. لكنه اليوم يقول بصوت خفيض: «انقطعنا عن التعليم لعامين كاملين. وقدراتنا العقلية تراجعت بصورة مؤلمة. حين وجدنا هذه المدرسة التي تضم معلمين مميزين، شعرنا وكأن الحياة تعود إلينا».

يتحدث أحمد عن الفراغ القاتل الذي سيطر على يومياته خلال سنوات الحرب: «كنت أستيقظ صباحًا دون هدف. لا كتب، لا دروس، لا امتحانات، ولا أي شعور بالتقدم. كأننا عالقون في العدم». ثم يضيف: «هذه المبادرة كانت بمثابة الضوء في آخر النفق».

«التعليم أصبح بالنسبة لنا غاية منشودة، وطريقًا وحيدًا قد ينقذنا من هذا الظلام»، يوضح وهو يُقلب صفحات كتاب الكيمياء الذي استعاده من زميله: «معلمونا يعاملوننا باحترام، يناقشوننا، يصغون إلينا، ويشجعوننا على التفكير. وهذا وحده يعيد بناء ثقتنا بأنفسنا».

ويختم أحمد بنظرة حازمة: «أطمح لدراسة الهندسة الطبية. أريد أن أُسهم في بناء ما دمّروه، وربما أساعد من فقدوا أطرافهم في هذه الحرب على النهوض مجددًا».

كلمة التعليم

وبينما يُعيد الأطفال بناء معارفهم قطعة قطعة، يظل الدور المحوري للمعلمين هو حجر الأساس في هذه المحاولة. من هنا تبرز الحاجة لإلقاء الضوء على من يقودون هذه القافلة وسط الركام، الذين لم يتركوا السبورة حتى وهم يشيّعون أبناءهم. في هذا السياق، نفتح المجال لصوت المعلمين أنفسهم.

في تصريح لـ«عُمان»، يقول محمد أبو جاسر، نائب الأمين العام للمعلمين الفلسطينيين: «نحن نخوض معركة بقاء معرفي في وجه الإبادة». ويؤكد أن العملية التعليمية لم تتعطل فقط بسبب القصف، بل لأن البنية التحتية بالكامل تم تدميرها بصورة ممنهجة.

«لدينا 905 مدارس تعطلت تمامًا، وتحولت معظمها إلى مراكز إيواء»، يضيف أبو جاسر، موضحًا أن هذه المراكز، رغم وظيفتها الإنسانية، لا تصلح بأي حال من الأحوال لأن تكون بديلًا دائمًا للمدارس، ومع ذلك: «الضرورة جعلتنا نبحث عن حلول إسعافية».

ويضيف: «من داخل هذه المراكز، بدأت تنشأ مبادرات تعليمية، لا تهدف لتقديم مناهج جديدة، بل لتذكير الطلاب بما حصلوه سابقًا، حتى لا يُمحى من ذاكرتهم تمامًا». وقد بادر معلمون – بعضهم فقدوا أسرهم – بتشكيل مجموعات تعليمية تطوعية.

وأشار إلى أن هذه المبادرات تعمل بأدوات بدائية، لكنها تحمل روحًا كبيرة. «المعلمون في غزة لا يحملون كتبًا فقط، بل يحملون رسالة كرامة»، يقول، مؤكدًا أن التعليم في غزة بات مقاومة يومية، ضد التجهيل والاستسلام والنسيان.

ويختم أبو جاسر تصريحه بنداء إلى العالم: «أن تُمنع غزة من التعليم، هو أن يُمنع شعب كامل من الحياة. نناشد كل الضمائر الحية أن تدعم حق طلاب غزة في الحلم».

أغاني تحت النار

خلف التصريحات الرسمية، هناك مشهد حي يومي يُكتب بلون الدم والتراب، مشهد أطفال يردّدون الأناشيد تحت القصف، ويحاولون تثبيت الحروف على دفاتر تقاوم التمزق. فلنقترب الآن من هذا الواقع الإنساني المتفجّر بالأمل، حيث الأغاني تُزهر في عزّ النار.

التعليم، كما يراه هؤلاء الصغار، لم يعد وسيلة للترقي أو لحصد الشهادات. بل أصبح فعلًا يوميًا لإثبات الوجود. قالت الطفلة غادة (11 عامًا) وهي ترتدي مريولًا قديمًا ممزقًا عند الكتف: «أنا أتعلم ليس من أجل العلامات، بل كي يعرف العالم أننا ما زلنا نحلم»

يتعلمون دون ضمان للغد، ويكتبون كلماتهم على دفاتر مستعملة، لكنهم يعلمون – بفطرة عجيبة – أن هذا القلم قد يكون آخر ما يربطهم بالحياة التي سُلبت منهم.