No Image
العرب والعالم

حكايات لم الشمل؛ جرح في خاصرة السوريين لا يندمل

29 أبريل 2021
29 أبريل 2021

دمشق - عُمان - بسام جميدة:

"لمّ الشمل" العبارة التي باتت أكثر استعمالا، وأكثر تعبيرا عن حالة التشتت التي يعيشها السوريين في كنف الحرب التي لا تزال تحرق وتنخر في صدورهم، كحسيس النار تحت الرماد.

أكثر من 70% من السوريين لديهم هذا الحلم، أن يلتم شملهم من جديد بعد أن باتوا موزعين أفرادا وجماعات في مختلف أصقاع المعمورة، مهاجرين ولاجئين يبحثون عن مسكن آمن ولقمة عيش كريمة بعيدا عن صخب الحرب وويلاته.

ومن بقي داخل سوريا أيضا يحلم بلم الشمل، وأن يعود لبيته وأن يجلسوا كعائلة مع بعضهم البعض بعد أن أصبحوا نازحين من ديارهم بسبب التدمير الذي لحق بمدنهم ومنازلهم وأصبحوا بلا مأوى، فاضطروا إلى النزوح نحو المناطق التي تعتبر آمنه في دمشق وبعض من ريفها وفي الساحل السوري، وفي أحيان كثيرة تجد العائلة الواحدة متفرقين كل في محافظة أو مدينة أو قرية.

هي حالة من التشتت والضياع الذي أفرزته الحرب وتركت آثارها ندوبا عميقة في كبد كل سوري، سنتوقف عند بعض الحالات "بأسماء مستعارة نظرا للأهمية، وبطلب من أصحابها"، وهي غالبا متشابهة في المجمل، ولكن لكل منها خصوصية عند صاحبها تتعلق بالأسباب الموجبة للترحال، مع التنويه إلى ما أبدعه السوريون في الخارج وهم يصارعون لجة الحياة من اجل إثبات الوجود وتحدي كل الظروف القاهرة التي ألمت بهم.

تشتت أسري

كان العام 2015 هو الأكثر قهرا ونزوحا، فبعد أربع سنوات من الحرب الطاحنة فتح الغرب أبوابه للاجئين الذين هاموا على وجوههم في البر والبحر والجو باحثين عن مكان آمن، حينها تفرق شمل الأسر السورية بشكل كبير، وأن سبقها نزوح أعداد أقل ولكن نحو المخيمات في بلدان الجوار، ومع تزايد أعداد اللاجئين الذي وصل إلى ما يقارب نصف سكان سوريا تفرق بهم الشمل واصبحوا شتاتا، بدأ السعي للم شمل بعضهم البعض، فبعض الدول سمحت وبشروط معينة بلم شمل الأسر السورية من جديد، ومن حينها بدأت الأحلام تكبر، وعاش السوريون الانتظار والترقب ورحلة البحث عن منفذ لكي تجتمع الأسرة حتى ولو كان في بلاد الشتات.

"سعى غالبية النازحين في الدول الغربية إلى جمع شمل أسرهم، فأضطرت غادة وولديها الى الانتظار ثلاث سنوات ونصف لتستطيع أن تأتي بزوجها إلى المانيا بعد أن عانت ما عانت من طريق السفر والبقاء لوحدها في الغربة، وتقول لم أصدق نفسي وأنا أرى أسرتي من جديد مجتمعة، وها نحن منذ عامين نعيش مع بعضنا البعض والأطفال فرحوا برؤية والدهم الذي سعدنا بقدومه".

اما الشاب طارق صاحب ال35 عاما فيقول "تركت زوجتي ومعها طفل عمره ثلاث سنوات وكانت حامل، هاجرت مضطرا إلى السويد، كان التواصل عبر الانترنت لمشاهدة المولود الجديد الذي لم احتضنه إلا بعد ثلاث سنوات من المعاناة من اجل استقدامهم إلى هنا، وها نحن نولد من جديد، فرحتي لم يسعها الكون، وآملي أن أرى أهلي أيضا، راودني شعور غريب هذا العام في رمضان، وكيف كنا نجتمع على موائد الإفطار".

ومن احدى المدن السورية تقول مريم صاحبة ال50 عاما التي غادرها زوجها وترك معها أولادها الخمسة، "منذ اربع سنوات ونحن ننتظر لم الشمل، أتعبنا الفراق كثيرا، ادرك انه يسعى بكل ما يستطيع لكي نكون معه، ولكن ابنتي تجاوزت السن القانونية - فوف ال18 عام- للم الشمل مما حال دون سفري، لا استطيع أن اتركها لوحدها وأسافر مع أنه كان بإمكاني السفر مع أولادي القاصرين، ولكن لن اترك ابنتي مشتتة هنا، نحاول كثيرا أن نجتمع، الأولاد يحتاجون والدهم، وهو يعمل على ذلك بواسطة محامي في احدى المدن الألمانية، تعبت كثيرا في تربيتهم وتأمين دراستهم ولقمة عيشهم، ندعوا الله أن يمن علينا بلم شمل العائلة".

عائلات كثيرة دفعت بأولادها إلى الهجرة خوفا عليهم من نيران الحرب، ومنهم أولاد قاصرين كثر، يقول أبو سامي "كنت خائفا على أبني الوحيد من الموت أو الخطف فالحرب لم تفرق بين كبير وصغير، فاضطررت إلى أن اجعله يسافر مع أقرباء لنا إلى احد الدول الأوروبية لم يكن سامي قد تجاوز ال12 عاما بعد، عندما سافر لم نكن نفكر بما سيحصل له، كان همنا أن يبقى سليما ولكن عندما ركبوا البحر اشتعلت قلوبنا نارا عليه من الخوف، وعندما وصل بعد عناء كنا قلقون عليه أكثر وأكثر، وانتظرنا ما يقارب الأربع سنوات حتى استطاع بمساعدة المنظمات الإنسانية أن نكون بجواره، وأن يلتئم شمل العائلة ولكن في الغربة هذه المرة، ومنه استمعنا لقصص الغربة والوحدة والترحال التي كان يعانيها، الحمد لله".

لم الشمل في الداخل

لم يقتصر موضوع لم الشمل على النازحين للخارج السوري، فقد أصبح أيضا حلما لكثير من السوريين في الداخل، خصوصا لأبناء المدن التي طالها الدمار، يروي لنا محسن الجواد وهو من أبناء مدينة دير الزور قصته بالقول "نزحنا أكثر من مرة ومن مدينة إلى أخرى، عائلتنا كبيرة ونحن سبعة أخوة وأربعة بنات وكلهم متزوجين ولهم أيضا أبناء متزوجين، الحرب فرقتنا وأصبحت كل عائلة في مدينة من المدن السورية وبعض من أبناء أخوتي مهاجرا للخارج، ورغم إننا في الداخل السوري وضمن مناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة ولكننا لم نلتق منذ سنوات، بعض منا في الشمال السوري وبعضهم في شرق البلاد، والبعض الآخر في دمشق والبعض في الساحل، ظروف التنقل صعبة ومكلفة جدا، كنا سابقا في حي واحد ونجتمع معا كل يوم، ولكننا الآن مشتتين ونجتمع أحيانا عبر وسائل التواصل فقط".

"تتميز مدينة الرقة بالتقارب العشائري، ولكن بعد أن أصاب المدينة ما أصابها ابتعد الناس عن بعضهم البعض، فلم تعد العشيرة تجمعنا كما كنا نقوم بذلك شهريا من باب التعرف على أوضاع بعضنا البعض، ومعرفة الأحوال، ناهيك عن الذين فقدناهم في الحرب، ومن النادر أن تجد هناك عائلة واحدة مجتمعة تحت سقف واحد، لم تعد لنا بيوت مأهولة غالبيتها باتت انقاض تفرقنا في القرى الآمنة ومنها للمدن الكبيرة، وبالمصادفة بتنا نلتقي، هكذا يقول أبو ناصر الرقاوي".

رأي مختص

ويصف لنا د. عبد الكريم محمد إستاذ علم النفس والاجتماع هذا الذي أصاب العائلات السورية بقوله "للأسف هذه واحدة من مفرزات الحرب السيئة جدا التي دمرت الحالة الأسرية في المجتمع الذي كان متماسكا ذات يوم، وفكك التضامن والتكافل أيضا، وأنعكس سلبا على نفوس الناس التي تفرق شملهم خلال هذه المحنة، وأصبح موجودا في تصرفاتهم اليومية، الأسرة التي يغيب عنها الوالد أو الوالدة ستكون في الواقع بحاجة إلى من يضبط الأمور أكثر، بل وغياب الأخ الأكبر يشكل نفس المعاناة، مما أصاب الأسرة السورية في مقتل وجروح لن تتعافى قبل سنوات مضت، طبعا مع وجود استثناءات قليلة لحالات مثالية جدا، ولكن القاعدة تقول ضرورة وجود ضابط إيقاع لكل منزل. وتواجد العائلات مع بعضها البعض يشكل حميمة دافئة من شأنها أن تنعكس إيجابا على كل المجتمع بشل عام، ولا نجد مثل هذا التفلت المجتمعي في التصرفات، حيث كثرت الجريمة والسرقات والقتل والنصب والاحتيال ولا أخفي سرا لو قلت تمرد كثير من الأولاد والفتيات على أسرهم بسبب النزوح والبعاد عن بعضهم البعض الأخر بدافع البحث عن لقمة العيش وعن الأمان، كما أن الأشرار الموجودين في المجتمع يتربصون بمثل هكذا حالات من اجل استغلالها لمصالحهم، لذلك أتمنى أن يعود شمل الأسر السورية كما كان من ذي قبل، فالتربية الصالحة تنشئ مجتمعا صالحا، والحرب أصابت فيما أصابت الأسر السورية بمقتل جراء هذا التشتت الكبير، فالأرقام هائلة، والنتائج محزنة، ونأمل أن تساهم المنظمات الإنسانية في إعادة اللحمة للمجتمع السوري، وأن تنشأ داخل البلاد منظمات إنسانية تعني بإعادة الحياة للأسر وتأهيلهم من جديد، فبناء البشر أصعب بكثير من بناء الحجر، وما تم تدميره بإمكانك استعادته بسهولة، ولكن إعادة صياغة الإنسان من جديد وفق قواعد التربية المنزلية التي تعتمد على التآلف الأسري المتين يتطلب وجود أسرة قوية الأركان تعيش تحت سقف واحد، ولا تفتقد للاحتياجات الأساسية للمعيشة"

قلق متواصل

لم يقتصر هذا الشتات على تلك المدن التي التقينا بعض من أهلها، فحتى في العاصمة دمشق وريفها أصبح اجتماع عائلة كاملة - الاخوة والاخوات - في بيت الجد مثلا أو بيت الأخ الأكبر كما يحدث سابقا من النوادر التي يتغنى بها الناس، وذلك لصعوبات كثيرة، وهي ضيق البيوت وصعوبات التنقل، بل والكلفة الباهظة لمثل هذا الاجتماع الذي يتطلب مصروفا باهظا، ناهيك عن القلق من كورونا الذي يفتك بالناس دون أن يكونوا قادرين على فعل شيء حياله، فالدمشقيون معتادون أن تلتقي عائلتهم ولو كل شهر مرة في احد روابي دمشق أو مطاعمها، ولكنها اليوم ترى صعوبة بالغة في هذا التجمع كما أسلفت.

ومدينة مثل حمص وحماة أيضا تعاني من هذا الشتات بسبب ما دار فيها من حروب على مدى السنوات الفائتة، وحتى عند عودة الناس لبيوتهم عادوا ناقصين العدد بسبب فقدان الأحبة في الحرب أو سفر البعض منهم للخارج.

وتتساءل منى 55 عاما من ريف حمص لتقول بناتي غائبات في أوروبا، وابني فقدته في الحرب، وزوجي توفى خلال الأزمة، أخوتي كل في بلد ومدينة، أخواتي في الأصل كل أخت متزوجة في محافظة، وبقيت لوحدي هنا مع اثنين من اولادي، ولكن كيف ومتى

يلتئم شملنا قبل أن أموت ..؟

أرقام

يبقى للرقم دلالاته الواضحة على ما أقول، وإن كان هناك ماهو غير واضح بين هذه الأرقام التي تشير إلى أعداد النازحين وهم الذين تشتت شملهم بسبب الحرب، وبحسب المفوضية السامية للأم المتحدة لشئون اللاجئين، فقد اضطر واحد من بين اثنين من

الرجال والنساء والأطفال السوريين للنزوح قسرًا منذ بداية النزاع في مارس 2011

- ولأكثر من مرة واحدة في أغلب الأحيان.

ومنذ اندلاع الحرب في سوريا، نزح أكثر من نصف سكان سوريا وتشرد مئات الآلاف في الداخل والخارج السوري، حيث وصلت نسبة اللاجئين السوريين إلى 8.25% من نسبة اللاجئين عالميا حتى نهاية عام 2019، لتصنف سوريا بذلك بلد المنشأ الأول للاجئين منذ العام 2014.

وذكر تقرير المفوضية السامية، أن عدد اللاجئين السوريين وصل إلى نحو 6.6 مليون لاجئ موزعين في 126 دولة، بينما عدد اللاجئين حول العالم تجاوز 80 مليون شخص حتى نهاية 2019، ويتركز 83% من اللاجئين السوريين في دول المنطقة العربية والجوار السوري.

مفرزات أخرى للشتات

غالبية من نزحوا من الشباب، بعضهم من ترك عائلته والبعض سافر عازبا، وكلهم يطمحون لأن تكون عائلاتهم معهم، الشباب منهم يواجهون صعوبة بالغة في الزواج في المهجر، لقلة البنات هناك وصعوبة تأمين المبالغ الباهظة التي يتطلبها الزواج ويطلبها الأهل، بل وصعوبة بالغة في استقدام عروس من داخل سوريا أو من دول الجوار، وبالتالي تبرز هذه المشكلة كثيرا.

وبالمقابل تبرز مشكلة أكبر في الداخل السوري حيث يكثر أعداد البنات قياسا إلى أعداد الذكور، وبالتالي برزت مشاكل كثيرة، ومنها صعوبة تكوين عائلة صغيرة.

مفرزات الحرب على الأسرة السورية كثيرة جدا ويصعب حصر نتائجها في هذا المقال، ولكنها معضلة تستوجب الدراسة والبحث عن حلول من أجل بناء المجتمع الذي يعتمد على بناء الأسرة القوية المتماسكة بالمحبة والألفة، وهذا يتطلب جهودا محلية ودولية كبيرة للقيام بها من أجل ردم الهوة الأسرية ولم شمل السوريين من جديد.