جلسة واحدة لا تكفي: مرضى الفشل الكلوي بغزة يُصارعون الموت في صمت
وزني تبخّر مع الجوع، أكثر من 10 كيلوغرامات ذابت من جسدي الضعيف، ولم أعد أستطيع المشي كما كنت سابقًا، صرت أتنقّل بكرسيٍّ متحرّك، رحلتي اليومية إلى المستشفى تحوّلت إلى كابوسٍ مرير، لا سيارات، ولا عربات تجرها الحيوانات، لا طرق مرصوفة، لا شيء سوى المعاناة.
بهذه الكلمات الحزينة بدأت سهام محمود، ذات ثلاثة وأربعين عامًا، حديثها أثناء وجودها برفقة مجموعة كبيرة من المرضى في قسم الكلى بمجمع الشفاء الطبي، شحوب يغطّي وجهها، تقرحات وجروح منتشرة في يديها.
على مدار أربعة أعوام، واظبت سهام، وهي من مخيم جباليا للاجئين، على غسيل الكلى، وقد أشارت إلى أنها نزحت أكثر من 8 مرات خلال الحرب، وأصبحت تعاني من انتفاخات في أطرافها بسبب نقص البروتين كما أخبرها الأطباء، بالإضافة إلى معاناتها من سرعة دقات القلب نتيجة نقص الغسيل، إضافة لشعور دائم بالإرهاق والاختناق، هذا عدا عن نقصان الوزن نتيجة المجاعة وسوء التغذية.
وإلى جانب ذلك، تعاني سهام من التهابات شديدة في الصدر وصعوبة في التنفس، إضافة لضعف عضلة القلب وعدم قدرتها على السير لمسافات كبيرة.
وتابعت سهام في سرد معاناتها قائلة: "بصراحة، مريض الكلى متحمّل فوق طاقته، لا خضار ولا فواكه ولا مياه صالحة، وفوق ذلك أزمة المواصلات، نشرب المياه الملوثة، الحشرات تأكل أجسادنا ليل نهار، وكل مرة نأتي فيها للغسيل نتفاجأ بموت واحد أو اثنين من مرضى الفشل الكلوي الذين يغسلون معنا".
وأضافت: "لا يمكنني العيش من دون الخضوع لجلسات غسل الكلى أسبوعيًا نتيجة ظهور عدة أعراض، أبرزها عدم القدرة على التنفس، والإرهاق، وفُقدان الشهية. انقطعت عن غسل الكلى لمدة 21 يومًا متواصلة خلال فترة اجتياح قوات الاحتلال لمجمع الشفاء الطبي، وكانت هذه الفترة أصعب أيام مرّت عليّ منذ بداية العدوان على غزة".
على مقربة من سهام، يجلس الشاب ممدوح سالم (29 عامًا)، يبدو عليه الإعياء والإرهاق الشديد، وانتفاخ واضح في جسده نتيجة تراكم السموم، وحاجته الماسة لتنقية الدم عبر جهاز الغسيل الذي يرافقه المرض منذ ثلاثة أعوام. قال واصفًا معاناته خلال النزوح:
"اضطررت إلى شرب مياه مالحة جدًا وملوثة في أماكن النزوح، وأحيانًا انحرمت نهائيًا من المياه المقطرة، أصبحت أشعر بالاختناق خلال النوم نتيجة تراكم السوائل في الصدر، صار لدي أرق، ورائحة كريهة في الفم، ومشاكل في المسالك البولية، ولم أعد قادرًا على التحرك، فلجأت إلى التنقل عبر الكرسي المتحرك، هذا غير تراكم الحصوات في الكلى، أصبحت أتناول وجبة طعام واحدة في اليوم بسبب نقص الطعام".
وأضاف ممدوح قائلًا: "إن مرضى الفشل الكلوي هم الأكثر تضررًا من المجاعة، لقد أنهت المجاعة حياة الكثير من المرضى نتيجة عدم وجود الطعام المناسب الذي يتضمنه برنامجهم الغذائي، مثل الخضار والفواكه والجبن والحليب".
أما الشابة هنادي عبد الواحد، ذات (25 عامًا)، فقد كانت تجلس في مستشفى ناصر الطبي بخان يونس، وفي يدها اليسرى أنبوبٌ متصل بجهاز غسل الكلى لإجراء جلسة الغسيل الكلوي، فقد قالت:
"منذ 8 سنوات وأنا أعاني من الفشل الكلوي، لقد اعتدت على هذه الأجهزة وعلى الخضوع لجلسات غسيل الكلى طيلة السنوات الماضية ثلاث مرات أسبوعيًا، لكن العدد تقلّص إلى مرتين خلال هذه الحرب بسبب نقص الأجهزة، لقد انعكس ذلك سلبًا على صحتي التي بدأت تتراجع بسبب قلة الجلسات، بالتزامن مع سوء التغذية الحاد الذي أعاني منه، لقد تدهورت مناعتي وأصبح جسمي لا يحتمل الأمراض".
هذا، وقد أسفرت الأزمة في جلسات الغسيل وعلاجات الفشل الكلوي عن وفاة العديد من مرضى الفشل في قطاع غزة. أحد هؤلاء، أشرف سلامة، الذي تلقى الغسيل الكلوي لـ7 سنوات بواقع 12 ساعة أسبوعيًا، قبل أن يفارق الحياة في شهر فبراير الماضي، إثر نزيف حاد نتيجة عدم توفر إبر الحديد وتقليص خدمة الغسيل الكلوي في قسم غسيل الكلى داخل مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة شمال قطاع غزة.
يخوض أطباء قسم الكلى، كغيرهم من الأقسام، سباقًا مريرًا مع الزمن لإنقاذ مئات المرضى المصابين بالفشل الكلوي، وسط مشهد إنساني قاسٍ يتكرر يوميًا في أروقة المستشفى المكتظة.
هؤلاء المرضى المتكدسون في الممرات والزوايا، يكافحون للحصول على جلسة غسيل كلى واحدة فقط في الأسبوع، بعد أن أصبح مجمع الشفاء الطبي هو المستشفى الوحيد الذي يخدم أكثر من مليون نسمة في غزة والشمال.
جاء ذلك عقب خروج جميع مستشفيات شمال غزة، بما فيها مركز نورة الكعبي الخاص بمرضى الكلى، عن الخدمة بعد التدمير الذي تعرض له شمال غزة جراء أوامر الإخلاء الإسرائيلية.
يعكس الواقع المأساوي الذي يعيشه مرضى الفشل الكلوي في غزة الحاجة الملحة إلى تدخل دولي عاجل، لتأمين الحد الأدنى من مقومات الرعاية الصحية، بما يشمل توفير الأجهزة والمستلزمات الطبية، وتدريب كوادر إضافية، وضمان استمرار التيار الكهربائي في أقسام الغسيل.
هذا، وقد ذكّر الدكتور رائد مصلح، أخصائي الكلى في مستشفى ناصر، أن ما بين 1000 - 1500 مريض بالفشل الكلوي تتفاقم حالتهم الصحية بشكل حاد بفعل نقص الخدمات الطبية والعلاجية والأدوية في أنحاء قطاع غزة، بفعل التدمير والحصار وانقطاع الكهرباء والوقود والمياه النظيفة، ما أدى إلى وقف تقديم خدمات الغسيل الكلوي الدورية للمرضى.
كما أكد أن نسبة الإشغال في قسم غسيل الكلى بمجمع ناصر تضاعفت بأكثر من 250%، بعد توقف غالبية المستشفيات عن العمل.
وأوضح قائلًا: إن "21 مستشفى من أصل 36 خرجت عن الخدمة بالكامل، فيما تعمل البقية بأقل من 20% من قدرتها التشغيلية"، والوضع كارثي، إذ فقدنا خلال الحرب الأخيرة أكثر من 45% من مرضى الفشل الكلوي من أصل 1150 مريضًا، حيث توفي 450 مريضًا حتى اللحظة، ونفقد يوميًا ما بين 3 إلى 5 مرضى بسبب تقليص عدد الجلسات ونقص المعدات، كما رُصدت حالات عديدة لمرضى يعانون من سوء تغذية حاد وفقر دم، واضطر كثير منهم لاستخدام كراسي متحركة لعجزهم عن الوقوف أو المشي".
وأشار إلى أن "البروتوكول الطبي ينص على منح كل مريض ثلاث جلسات أسبوعيًا، بمعدل أربع ساعات للجلسة الواحدة، أي 12 ساعة أسبوعيًا، لكن بفعل الضغط الهائل تم تقليصها إلى جلستين، ثم إلى جلسة واحدة فقط لا تتجاوز الساعتين أسبوعيًا، ما يعرّض المرضى لخطر الموت بسبب تراكم السموم في الدم".
ونوّه الطبيب مصلح إلى أن انقطاع التيار الكهربائي يشكّل تهديدًا مباشرًا لحياة المرضى، قائلًا: "انقطاع الكهرباء خلال جلسة الغسيل قد يؤدي إلى تسمم الدم، وبالتالي الوفاة الفورية. نحن بحاجة دائمة إلى مولدات قوية ووقود مستمر، وهذا ما نفتقر إليه حاليًا".
وأضاف: "الأزمة لا تتوقف عند هذا الحد، فالطاقم الطبي نفسه يعاني من استنزاف حاد، بعد فقدان معظم أطباء الكلى خلال الحرب. ولا يتجاوز عدد الأطباء المتبقين عن 8 فقط، إضافة إلى النقص الكبير في أجهزة غسيل الكلى، إذ لا يتوفر في المجمع سوى 30 جهازًا فقط، تخدم مئات المرضى يوميًا".
وقال: إن "هناك أكثر من 60 حالة لمرضى الفشل الكلوي باتوا معرضين لخطر الوفاة في أي لحظة، بعد وفاة 40 حالة على الأقل".
وأشار أيضًا إلى أن أعدادًا جديدة من المرضى سُجلت خلال الأشهر الخمسة الماضية، لكنها لم تُضم إلى قاعدة البيانات حسب النظام الصحي، للحصول على المتابعة العلاجية الضرورية، وذلك بسبب انهيار الهياكل الإدارية والحكومية في قطاع غزة.
ونوّه مصلح إلى أن آلافًا من أصحاب الأمراض المزمنة والخطيرة في قطاع غزة، ومنهم مرضى الفشل الكلوي، "يواجهون حكمًا بالموت البطيء في خضم جريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين في القطاع المستمرة منذ السابع من أكتوبر الماضي".
ولفت الطبيب إلى أن تفاقم معاناة مرضى الفشل الكلوي مرتبط كذلك بسوء التغذية، نظرًا للمجاعة الحاصلة، فغالبية السكان يعتمدون على البقوليات والمياه الملوثة، مما يؤدي إلى ارتفاع وظائف الكلى وتراكم السموم، ما ينعكس سلبًا على صحة المريض.
هذا، وقد أفادت مصادر طبية في قطاع غزة بأن "41% من مرضى الفشل الكلوي استُشهدوا منذ بداية العدوان، في ظل تعذر حصولهم على الغسيل الكلوي نتيجة تدمير المرافق الصحية وتعطل الخدمات الطبية الأساسية".
وأشارت المصادر إلى أن "مركز نورة الكعبي لغسيل الكلى، الواقع شمالي قطاع غزة، خرج عن الخدمة بعد تعرضه لأضرار جسيمة، وكان يُعد من المراكز الرئيسة التي تقدم الرعاية لمئات المرضى المصابين بالفشل الكلوي".
وقالت المصادر: إن "غياب المراكز التخصصية في شمالي القطاع يعقّد الوضع الصحي للمرضى الذين يعتمدون على الغسيل المنتظم، وسط تحذيرات من تدهور أكبر في حال عدم إعادة تشغيل هذه المرافق أو توفير بدائل عاجلة".
ويعاني النظام الصحي في قطاع غزة من انهيار شبه كامل نتيجة عدوان الاحتلال الإسرائيلي منذ أكتوبر 2023، إذ خرجت غالبية المستشفيات عن الخدمة بسبب القصف أو نقص الوقود والمستلزمات الطبية.
أما منظمة الصحة العالمية، التابعة للأمم المتحدة، فقد قالت: إن "أقل من 30% من المرافق الصحية في غزة تعمل جزئيًا، في حين يعاني القطاع من نقص حاد في الأدوية، خاصة تلك المخصصة للأمراض المزمنة".
وتواجه الفئات الضعيفة، مثل مرضى السرطان والفشل الكلوي، صعوبات متزايدة في الوصول إلى الرعاية الصحية، في ظل إغلاق المعابر وغياب الإمكانيات اللوجستية لنقل المرضى إلى خارج القطاع لتلقي العلاج.
وفي ذات السياق، فقد صرّح المرصد "الأورومتوسطي" لحقوق الإنسان في بيان له بتوقف مضخات خاصة بمحطة تحلية المياه التابعة لقسم غسيل الكلى في مستشفى الشفاء الرئيسي في غزة، وخروجه عن الخدمة نتيجة للغياب الكامل للكهرباء، ما أثّر في أجهزة الغسيل التي تعطل بعضها، على الرغم من قلّة عددها، وباتت لا تفي باحتياجات المرضى نظرًا لارتفاع أعدادهم، مما اضطرهم لاحقًا للغسيل على نظام الفترات بحسب الوقت المتاح في المستشفى، وليس بحسب الاحتياج وحالاتهم المرضية.
ودعا "الأورومتوسطي" المؤسسات الدولية والأممية المختصة، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية، إلى تسليط الضوء على الأوضاع الصحية الكارثية التي يعانيها المرضى والجرحى في قطاع غزة، والتي باتت تشكل تهديدًا حقيقيًا على حياة الآلاف منهم.
وتواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي، بدعم أمريكي، ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، لليوم الـ650 تواليًا، عبر شن عشرات الغارات الجوية والقصف المدفعي، والأحزمة النارية مع ارتكاب مجازر دامية ضد المدنيين، وتنفيذ جرائم مروّعة في مناطق التوغل، وسط وضع إنساني كارثي نتيجة الحصار ونزوح أكثر من 90% من السكان.
