نظام نقدي عالمي لعالم متعدد الأقطاب

06 فبراير 2023
06 فبراير 2023

ترجمة: أحمد شافعي -

في وقت سابق من الشهر الحالي، حظيت بشرف المشاركة في حوارات شهدتها الصالات والفعاليات العديدة المرافقة والمرتبطة باللقاء السنوي لمنتدي الاقتصاد العالمي في دافوس بسويسرا. وكان موضوع واحد يتردد على ألسن الجميع، في الجلسات الرسمية بمركز المؤتمرات وفي أحاديث الساهرين في حانة بيانو بفندق أوروبا: الانفصال بين الولايات المتحدة والصين. يمكن وصف هذا الانفصال باستعمال مجاز من «حكاية مدينتين» لتشارلز ديكنز. ففي هذا الكتاب الكلاسيكي، يرسم الكاتب باريس ولندن بوصفهما شديدتي الاختلاف، لكنهما مرتبطتان من خلال أحداث الثورة الفرنسية المضطربة. وبالمثل، ارتبطت الولايات المتحدة والصين ارتباطا وثيقا من خلال التبادل التجاري والاستثمار منذ سنوات عديدة، لكنهما الآن تتحركان في اتجاهين مستقلين إذ يتصاعد التوتر في العلاقة المشحونة أكثر فأكثر. وقد حذر نائب رئيس الوزراء الصيني ليو هي من «عقلية الحرب الباردة» في دافوس، لكنه عجز عن إقناع العالم بأن بكين راجعة. ولكن عنوان تجمع العالم الحالي وهو «التعاون في عالم التشظي» ناب عن كتب في ما قاله بشأن حالة الشؤون العالمية.

ومثلما أوجدت الثورة الفرنسية سنة 1789 انقساما بين باريس ولندن، فإن التوترات التجارية والنزاعات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين ناجمة عن انفصال بين الاقتصادين الأضخم في العالم. وهذا الانقسام العالمي يحدده إحساس متزايد بفقدان الثقة بين العملاقين الاقتصاديين في التجارة العالمية.

لقد كان نظام بريتون وودز الذي تأسس وسط خراب العالم الناجم عن الحرب العالمية الثانية مجموعة من الترتيبات النقدية الدولية التي رمت إلى دعم الثبات والنمو الاقتصاديين من خلال ربط العملات المحلية بالدولار الأمريكي وتثبيت أسعار الصرف. وفي عالم متعدد الأقطاب، يواجه نظام بريتن العديد من التحديات، من بينها:

الاعتماد على الدولار الأمريكي: يعتمد النظام اعتمادا كبيرا على ثبات الدولار الأمريكي، بحيث إن أي تذبذب أو انخفاض غير منتظم في قيمته قد يترك آثارا كبيرة على عملات أخرى وعلى الاقتصاد العالمي.

محدودية القابلية للتكيف: نظام تثبيت سعر الصرف لا يمكن أن يتكيف بسهولة مع تغيرات الاقتصاد العالمي وسوف يؤدي في حالات كثيرة إلى اختلالات في التوازن وصراعات تجارية.

نمو اقتصادي غير متكافئ: وضع نظام بريتن وودز لعالم خاضع لسيطرة قوتين عظميين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وفي عالم عديد الأقطاب ذي مراكز قوة متعددة، سوف يصعب عليه أن يتكيف مع مستويات وأنظمة متنوعة من النمو الاقتصادي والتنمية.

زيادة التنافس النقدي: أدى صعود الصين وانسحاب روسيا من النظام المالي العالمي، بجانب ازدياد التنافس النقدي، إلى فرض مزيد من الصعوبة على الولايات المتحدة في المحافظة على مركزها المهيمن على النظام النقدي العالمي.

الاستجابة القاصرة للأزمات: تعرض النظام للنقد لعجزه عن الاستجابة بفعالية للصدمات والأزمات الاقتصادية، من قبيل أزمة النفط في سبعينيات القرن الماضي.

أسهمت التحديات الممنهجة التي واجهتها مؤسسات بريتن وودن في عالم عديد الأقطاب في انهياره التدريجي والدعوات إلى التحول نحو نظام نقدي جديد متنوع وشامل يمكن فيه للمناطق المختلفة أن تتلاقى لتتفق على كتاب مشترك لقواعد اللعب والاشتباك. وفي ظل انحسار النظام القديم، لم يتخذ بعد النظام الجديد شكله النهائي، لكننا ماضون في رؤية علامات ونذر لما سيكون عليه شكل الآتي.

يمكن النظر إلى عزوف البلاد النامية عن قبول «إجماع واشنطن» بوصفه رفضا للنظام القديم بما فيه من أوجه قصور. لم يعد ينظر إلى النماذج الاقتصادية التي سادت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها ذات صلة أو فعالة في عالم سريع التغير والتقلب متعدد الأقطاب، والبلاد النامية تسعى إلى طرق جديدة لتعزيز الاستقرار والنمو تراعي ما تنفرد به من تحديات واحتياجات.

حيث تأتي جزر العالم من أجل اللعب

لقد صاغ المحلل السياسي الروسي ألكسندر دوجين نظرية في الجغرافيا العالمية تعرف بالجزر العالية. تقوم على فكرة أن العالم يمكن تقسيمه إلى العديد من المجالات السياسية الثقافية المتمايزة، أو «الجزر» التي ينفرد كل منها بخصائص وتاريخ. وبحسب دوجين، فإن لهذه الجزر هويات ثقافية وسياسية متمايزة وتتحدد عن طريق ارتباط كل منها بالأخريات وبالعالم الواسع.

يذهب دوجين، الذي يوصف أحيانا بالعقل الأيديولوجي المدبر لروسيا البوتينية، إلى أن هذه الجزر سوف تنتظم في تراتبية، على رأسها الغرب وأسفلها مناطق أخرى من قبيل روسيا والصين والعالم الإسلامي. يذهب دوجين إلى أن العالم يمر بتحول عميق، مع صعود قوى جديدة وانحدار الغرب، وأن هذا التحول سوف تكون له تداعيات كبيرة على مستقبل العالم. وهو يعتقد أن العالم يبتعد عن نظام القطب الواحد الخاضع لسيطرة الغرب نحو نظام عديد الأقطاب يكون فيه للجزر العالمية قدر أكبر من الاستقلال والتأثير.

في الوقت الراهن، نشهد ظهور العديد من الجزر العالمية، حيث الولايات المتحدة تقود الغرب المتحد، ولو أن شروخا تظهر بين الحين والآخر في الرباط العابر للأطلنطي بشأن القضايا التجارية والسياسات الحمائية في كلا جانبي الأطلنطي. تم طرد روسيا من النظام المالي الغربي وتم إرغامها على إنشاء نظامها الخاص أو دمج نظام مدفوعاتها مع نظام مدفوعات الصين. وتبقى أفريقيا إلى حد كبير علامة استفهام فأحد المشاركين في ندوة أفريكا هاوس في دافوس قال مذكرا الجمهور: إن معظم الأفارقة لا يزالون يجدون صعوبة أكبر من الأجانب في أن يزوروا البلاد المجاورة. ونرى جزرا مشابهة، أو معايير مختلفة، تظهر في فضاء التقنيات الرقمية.

المستقبل رقمي ومدعوم بأصول حقيقية

قد تلعب التكنولوجيا المالية (Fintech) دورا مهما في صياغة قالب النظام النقدي العالمي وبنيته في المستقبل. فالاستعمال الابتكاري للتكنولوجيا من خلال الاستثمار التعاوني والمنصات المالية قادر على الوصول إلى السكان المستبعدين من الخدمات المالية التقليدية وزيادة وصول الخدمات المالية إلى مناطق لم تنتفع من كونها جزءا من إجماع واشنطن. وغالبا ما تستعمل حلول التكنولوجيا المالية بنيةً أساسية رقمية ونماذج تشغيل قليلة التكلفة لتقديم الخدمات المالية بتكاليف أقل، بما يجعلها أيسر وصولا إلى نطاق أكبر من العملاء. كما فتحت التكنولوجيا المالية قوالب تمويل جديدة مثل التمويل الجماعي (crowdfunding) وإقراض الأنداد (peer-to-peer lending) بما يتيح للجميع أن يصبحوا مصرفيين لأنفسهم. ولقد كشف انهيار العملات المشفرة أخيرا عن ضعف حلول التكنولوجيا المالية غير المدعومة بأصول حقيقية.

وهكذا فإن من المهم أن يكون النظام النقدي العالمي الجديد مدعوما بأصول حقيقية، لأن نظاما كهذا قادر على توفير مزيد من الاستقرار لبناء الثقة في البيئات شديدة التقلب. والاستقرار بات الشرط الجديد الذي يبحث عنه المستثمرون. والأصول الحقيقية هي عناصر ملموسة من قبيل الذهب أو العقارات مما له قيمة في ذاته وغير خاضع لمثل التقلبات والاضطرابات التي تعتري أشكال العملات الأخرى. تعد العملات المدعومة بأصول حقيقية أجدر بالثقة والاطمئنان لأن قيمتها مرتبطة مباشرة بقيمة الأصول الأساسية. والأصول الأساسية المدعومة بأصول حقيقية يمكن أيضا أن توفر وقاية قوية من التضخم. وفيما يسعى الاقتصاد العالمي إلى حلول أكثر اعتمادا على الأصول الحقيقية، يصبح السؤال هو: كيف نجمع العالم المتشظي لمناقشة قواعد مشتركة للعبة، وأين يمكن أن يقام مثل هذا الاجتماع؟

هل يعقد بريتن وودز 2 في الخليج؟

تمثل دول مجلس التعاون الخليجي خيارا طبيعيا لجمع البلاد في عالم متعدد الأقطاب لمناقشة مستقبل النظام النقدي العالمي. ويرجع هذا إلى دورها كبناة جسور وجهودها الدبلوماسية الرامية إلى أن تكون منصات للحوار حول الوجهة المستقبلية للتنمية والقيادة في المستقبل، ودليل ذلك مؤتمر دبي إكسبو 2020 الأخير وبطولة كأس العالم في قطر لعام 2022، بجانب رئاسة الإمارات العربية المتحدة القادمة لمؤتمر المناخ العالمي كوب 28.

لبلاد الخليج العربي تاريخ طويل في العمل كوسطاء بين البلاد بما جعل المنطقة مركزا للتبادل الاقتصادي والسياسي والثقافي. وبموقعها الاستراتيجي عند تقاطع أوروبا وآسيا وأفريقيا، فإن لدول مجلس التعاون الخليجي تأثيرا جيوسياسيا مهما على المنطقة الأوسع، بما يجعل الخليج موقعا مناسبا لأن يكون منصة مستقبلية للتعاون والتعاضد الدوليين. ولبلاد الخليج روابط دبلوماسية قوية مع بلاد العالم ولها سمعة الوسطاء الطبيعيين في الصراعات والنزاعات. وفي حين وصف الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي الحياد بأنه لا أخلاقي في ما يتعلق بحرب أوكرانيا، فإن واقع عالمنا هو أنه عندما تنتهي الحرب ـ والحروب كلها تنتهي في آخر المطاف ـ سوف تكون هناك أوكرانيا وسوف تكون هناك روسيا، وسيكون عليهما أن يتعلما التعايش معا من جديد.

حتى العالم المتشظي بحاجة إلى أماكن للقاء. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كان هناك بنك التسويات الدولي الذي كان بوسع الأطراف المتحاربة أن تلتقي فيه لمناقشة كل من القضايا التجارية البارزة ومستقبل النظام العالمي بعد الحرب. وبالمثل، يتميز الخليج بموقع متميز صالح لجمع أجزاء العالم التي لا تتبادل الحديث معا لوضع خريطة لمعمار النظام النقدي العالمي في المستقبل.

فيل كوربيلا مدير تنفيذي لمعهد إمباكت إنوفيشن، وهو أيضا عضو برنامج المستشارين في المجلس الأطلنطي.

عن ناشونال إنتريست