من يُغذي التنمر؟
في الوقوف على المشكلات النفسية - الاجتماعية التي تأخذ حيزها في المجتمعات لا يمكن إغفال الانتباه إلى المغذيات اليومية لهذه المشكلات؛ ونقصد هنا تلك الأفعال والأقوال والرمزيات والإيماءات السائدة في حياتنا اليومية، والتي تجعل من تلك المشكلة وكأنها صفة اعتيادية ملازمة لسلوك أفراد المجتمع ومتجذرة في ثقافتهم. بمعنى أن يتحول سلوك/ ممارسة معينة مرتبطة بمشكلة ما إلى أمر اعتيادي (مألوف) في الممارسة الاجتماعية. وهنا تكمن خطورة المشكلات الاجتماعية؛ ذلك أن المجتمع بأفراده ومؤسساته لا يستطيع التفريق حينها بين (ما يغذي جذور المشكلة الاجتماعية) وبين ما هو نمط سائد/ اعتيادي/ مقبول/ مألوف في الحالة الاجتماعية. وفي علم الاجتماع فإن التحليل المعمق لجذور المشكلات الاجتماعية؛ سواء كانت تلك الجذور مرتبطة بالبنى الكلية (الوضع الاقتصادي - الوضع السياسي - المستويات المعيشية..) وسواها. أو مرتبط بالبنى الثقافية، أو مرتبط بما يُعرف بـ «رموز الحياة اليومية». كل هذه المعطيات لا يمكن إهمالها لفهم تجذرات المشكلة، وبالتالي إيجاد المقاربات الأكثر نجاعة لمواجهتها.
لا يمكن اليوم إهمال الكلمات، والصور، والرموز، والإيماءات من بؤرة التحليل الاجتماعي للمشكلة الاجتماعية؛ خصوصًا ونحن نعيش في «مجتمع الفُرجة» - كما يسميه جي ديبور - وهو المجتمع الذي تُعيد فيه الصورة تشكيل الهويات والتفاعلات وأسس التواصل بين المجتمع. وتتعدى ذلك إما لتعزيز أعراف وقيم ثقافية معينة أو للبطش بها. يقول ديبور عن «مجتمع الفرجة» إنه يمثل «العالم المقلوب». وهو في نظره «في العالم المقلوب واقعيا رأسا على عقب، يكون ما هو حقيقي وواقعي لحظة مِن لحظات ما هو وهمي وزائف». ومن هنا فإن هذه الصور المتعاظمة - والصورة هنا ليس بمعناها المفرد وإنما المشهدي - أصبحت اليوم تشكل عوالمنا، وتعيد تشكيل هوياتنا، والأخطر من ذلك أنها أصبحت تغذي بعض مشكلاتنا الاجتماعية، فتحيلها إلى إطار (المألوف) الاجتماعي.
ليس بمستجد القول أن (التنمر) بوصفه مشكلة مُختلطة الأبعاد (نفسية - اجتماعية) أصبح يحظى وخصوصًا خلال الأعوام الفائتة بمساحات واسعة من النقاش، ومحاولة النظر والتأصيل على الأقل في سياق منطقتنا العربية، على الرغم من محدودية هذا النقاش والجدل الكبير حول (أصالته/ جديته). ولكن تبقى القضية شائكة. عالم مثل دان لويس على سبيل المثال في النرويج، سخر حياته الأكاديمية والبحثية بالكامل في دراسة موضوع (التنمر). ويعتبر كتابه (Aggression in the Schools: Bullies and Whipping Boys) أول أطروحة علمية تؤصل للأسباب التكاملية للتنمر في العالم. وقد سخر حياته كذلك لاحقًا لمشروعه الشهير في وضع الموارد التعليمية الخاصة لمواجهة التنمر بعنوان: «Olweus Bullying Prevention Program» وهو «برنامج مدرسي متعدد المستويات والمكونات، مصمم لمنع أو تقليل التنمر في المدارس الابتدائية والمتوسطة والصغرى (الطلاب من سن 6 إلى 15 عامًا). بما يضمن إعادة هيكلة البيئة المدرسية لتقليل فرص التنمر». ومثل هذه الجهود المؤصلة ما زالت المنطقة العربية تفتقر إليها، وخاصة من ناحية البحث الجاد في العناصر التي تغذي التنمر من صلب التعاملات والتفاعلات اليومية في الحياة الاجتماعية. يناقش علماء الاجتماع (التنمر) بوصفه منتجًا ينشأ عن اختلال العمليات الاجتماعية في ثلاثة مستويات (التنشئة الاجتماعية والعوامل الثقافية – السلطة والتسلسل الهرمي والاجتماعي – الشبكات الاجتماعية وديناميكيات المجموعة الاجتماعية). إلا أن هناك مغذيات أخرى أصبحت تتحكم في تصاعد الظاهرة تأتي اليوم من حالة (الاستفراد بالشاشة)؛ ونقصد هنا ما يمكن أن يتلقاه الفرد (في مختلف المراحل العمرية) من صور وأنماط وسلوكيات عبر الشبكات الاجتماعية، قد تعيد تعريف القيمة الاجتماعية بالنسبة له، وقد تغذي لديه ميول/اتجاهات/تفضيلات معينة، أو قد تشرعن مشكلة/سلوك معين لديه. والخطورة في (الاستفراد بالشاشة) إنه لا معيار (فلترة) اجتماعي يحكمها. بمعنى أن نتاج هذا الاستفراد هو إعادة تشكيل للثقافة الفردية، دون إخضاعها للمعيار الاجتماعي بالضرورة.
ما يدفعني لكتابة هذه المقالة هو نمط ناشئ عبر شبكات التواصل الاجتماعي وخصوصًا القائمة على صنع محتوى مرئي (يومي)، حيث يتخذ (صاحب المنصة) شخصًا آخر ملازمًا له بشكل يومي (دائم) ويسخرهُ لأجلِ صُنع الفكاهة. التي قد تستأثر في بعض من عملياتها بالدخول إلى مناطق تتماس بالتنمر على تلك الشخصية، إما في تكوينها، وإما في سلوكها وتصرفاتها، أو من خلال وضعها (مادة) لتعليقات وتكسب متابعات الآخرين. يبرر البعض هذه الحالة بكونها (مجرد كوميديا)، وأن المتلقي أقدر ما يكون على (فلترتها) وأخذها على محمل (الدعابة/ المقالب/ المزح)؛ ولكن عن أي (متلقي) نتحدث حين نتحدث عن هذا الانتشار؟ وهل يمكن وضع هذا (المتلقي) على محك واحد من الثقافة والمعرفة والفهم والوعي والقدرة على التصفية الفكرية؟. في تقديرنا مثل هذه التصرفات التي أصحبت اليوم (مألوفة) وعادية هي تعيد تشكيل حالة اجتماعية. وفي حال لم يتم التفطن لها، والتنبه لخطورتها، قد تتحول إلى (حالة عامة). لست هنا من دعاة التقييد المطلق للمحتوى، أو دعاة التضخيم لما يحدث في الشبكات الاجتماعية، ولكننا حين نطالع ونبحث في الكلف النفسية والاجتماعية والاقتصادية لظاهرة مثل (التنمر) نكون على مستوى الجدارة بالمناداة بأهمية الانتباه لمثل هذه المغذيات التي تغذي المشكلات/ الظواهر العمومية.
في مارس 2021 نشرت مجلة الأكاديمية الأمريكية للطب النفسي للأطفال والمراهقين دراسة مهمة حول «التكلفة الاقتصادية لتنمر الأطفال والمراهقين في أستراليا». حيث استخدمت الدراسة منهجية متكاملة لمحاولة قياس تكاليف التنمر من خلال حصر التكاليف المرتبطة بالرعاية الصحية وموارد التعليم وخسائر الإنتاجية في مرحلتي الطفولة والمراهقة. وقد خلصت إلى الكلفة الصحية وغير الصحية للتنمر على هاتين الفئيتين بلغت في 2016 قرابة 763 مليون دولار أسترالي. ويقارن المختص في علم النفس بوب موراي تكلفة (التنمر في بيئات العمل) على الاقتصاد حيث بلغت هذه الكلفة في عام (2007) في الاقتصاد الإيرلندي حوالي 239 مليون يورو سنويًا. أما في الولايات المتحدة فإن التكلفة وصلت إلى 4.5 مليار دولار. كل هذه الكلف الاقتصادية والاجتماعية والنفسية هي مدعاة إلى النظر إلى المغذيات العامة لهذه المشكلة في تقديرنا. وإن كانت طبيعة البنى الثقافية تتفاوت من مجتمع إلى آخر. إلا أننا نرى أن تقدير الكلف الفعلية والحقيقية لجزء كبير من مشكلاتنا ومحاولة النظر في (مسرح الحياة اليومية) لمعرفة العناصر التي تغذيها هو أمر منهجي مهم لمواجهتها. ولإيجاد البرامج الناجعة للتصدي لها في مختلف مراحلها وعبر مختلف الفاعلين والمتأثرين بها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان